الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **
ومما يُبين الفرق بين عدة الرجعية والبائن، أن عِدَّة الرجعية لأجل الزوج وللمرأة فيها النفقة والسكنى باتفاق المسلمين، ولكن سُكناها، هل هي كسكنى الزوجة، فيجوز أن يَنْقُلَها المطلقُ حيث شاء، أم يتعين عليها المنزلُ، فلا تَخْرُجُ ولا تُخْرَجُ؟ فيه قولان. وهذا الثانى، هو المنصوص عن أحمد، وأبى حنيفة، وعليه يدل القرآن. والأول: قول الشافعى، وهو قولُ بعض أصحاب أحمد. والصواب: ما جاء به القرآن، فإن سُكنى الرجعية مِن جنس سكنى المتوفى عنها، ولو تراضيا بإسقاطها، لم يجز، كما أن العِدة فيها كذلك بخلاف البائن، فإنها لا سُكنى لها، ولا عليها، فالزوجُ له أن يُخرجها، ولها أن تخرج، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: (لا نَفَقَةَ لَكِ وَلاَ سُكْنَى). وأما الرجعة: فهل هي حق للزوج يملك إسقاطها بأن يطلقها واحدة بائنة، أم هي حقٌّ للَّه فلا يملك إسقاطها؟ ولو قال: أنتِ طالق طلقة بائنة، وقعت رجعية، أم هي حق لهما فإن تراضيا بالخُلع بلا عِوض، وقع طلاقاً بائناً، ولا رجعة فيه؟ فيه ثلاثة أقوال. فالأول: مذهب أبى حنيفة، وإحدى الروايات عن أحمد. والثانى: مذهب الشافعى، والرواية الثانية عن أحمد.والثالث: مذهب مالك، والرواية الثالثة عن أحمد. والصواب: أن الرجعة حق للَّه تعالى ليس لهما أن يَتَّفِقَا على إسقاطها، وليس له أن يُطلِّقَها طلقة بائنة، ولو رضيت الزوجةُ، كما أنه ليس لهما أن يتراضيا بفسخ النكاح بلا عِوض بالاتفاق. فإن قيل: فكيف يجوز الخلعُ بغيرِ عوض في أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وهل هذا إلا إتفاقُ مِن الزوجين على فسخ النكاح بغير عوض؟ قيل: إنما يجُوِّز أحمد في إحدى الروايتين الخُلع بلا عِوض إذا كان طلاقاً، فأما إذا كان فسخاً، فلا يَجوزُ بالاتفاق، قاله شيخنا رحمه اللَّه. قال: ولو جاز هذا، لجاز أن يتفقا على أن يَبينها مرة بعد مرة من غير أن يَنْقُصَ عدد الطلاق، ويكون الأمر إليهما إذا أراد أن يجعلا الفرقة بين الثلاث جعلاها، وإن أرادا، لم يجعلاها من الثلاث، ويلزمُ مِن هذا إذا قالت: فادنى بلا طلاق، أن يبينها بلا طلاق، ويكون مخيراً إذا سألته إن شاء أن يجعله رجعياً، وإن شاء أن يجعله بائناً، وهذا ممتنع، فإن مضمونه أنه يُخير، إن شاء أن يُحرمها بعد المرة الثالثة، وإن شاء لم يُحرمها، ويمتنع أن يخير الرجل بينَ أن يجعل الشىء حلالاً، وأن يجعلَه حراماً، ولكن إنما يُخير بين مباحين له، وله يُباشر أسبابَ الحِل وأسباب التحريم، وليس له إنشاءُ نفس التحليل والتحريم، واللَّهُ سبحانه إنما شرع له الطلاق واحدة بعد واحدة، ولم يشرع له إيقاعه مرة واحدة، لئلا يندم، وتزولَ نزغةُ الشيطان التي حملته على الطلاق، فتتبع نفسُه المرأة، فلا يجد إليها سبيلاً، فلو ملكه الشارع أن يطلقها طلقة بائنة ابتداء، لكان هذا المحذورُ بعينه موجوداً، والشريعةُ المشتمِلةُ على مصالح العباد تأبى ذلك، فإنه يبقى الأمرُ بيدها إن شاءت راجعته، وإن شاءت فلا، واللَّه سبحانه جعل الطلاق بيدِ الزوج لا بيد المرأة رحمةً منه وإحساناً، ومراعاةً لمصلحة الزوجين.نعم له أن يُملكها أمرها بإختياره، فيخيرها بين القيام معه وفراقها. وأما أن يخرجَ الأمرُ عن يد الزوج بالكلية إليها، فهذا لا يمكن. فليس له أن يُسقط حقَّه مِن الرجعة، ولا يملك ذلك، فإن الشارع إنما يملك العبد ما ينفعُه ملكه، ولا يتضرر به، ولهذا لم يملكه أكثر من ثلاث، ولا ملكه جمع الثلاث، ولا ملَّكه الطلاق في زمن الحيض والطهر المواقع فيه، ولا ملكه نكاح أكثر من أربع، ولا ملك المرأةَ الطلاق، وقد نهى سبحانه الرجال: أن يُؤتُوا السُّفَهَاءَ أمْوالَهُم التي جَعَلَ اللَّهُ لهم قِيَاماً، فكيف يجعلون أمر الأبضاع إليهن في الطلاق والرجعة، فكما لا يكون الطلاقُ بيدها لا تكون الرجعة بيدها، فإن شاءت راجعته، وإن شاءت فلا، فتبقى الرجعةُ موقوفةً على اختيارها، وإذا كان لا يملك الطلاقَ البائن، فلأن لا يملك الطلاقَ المحرم ابتداءً أولى وأحرى، لأن الندم في الطلاق المحرم أقوى منه في البائن. فمن قال: إنه لا يمِلكُ الإبانة، ولو أتى بها لم تَبِنْ، كما هو قولُ فقهاء الحديث، لزمه أن يقول: إنه لا يملك الثلاث المحرمة ابتداء بطريق الأولى والأخرى، وأن له رجعتَها. وإن أوقعها، كان له رجعتُها.. وإن قال: أنت طالق واحدة بائنة، فإذا كان لا يملِك إسقاط الرجعة، فكيف يملِكُ إثباتَ التحريم الذي لا يعود بعده إلا بزوجٍ وإصابة؟ فإن قيل: فلازم هذا أنه لا يملكه ولو بعداثنتين، قلنا: ليس ذلك بلازم، فإن اللَّه سبحانه ملكه الطلاق على وجه معين، وهو أن يطلق واحدة، ويكون أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها، ثم إن شاء طلق الثانية كذلك، ويبقى له واحدةٌ، وأخبر أنه إن أوقعها، حَرُمَتْ عليه، ولا تعود إليه إلا أن تتزوج غيره، ويُصيبها ويُفارقها، فهذا هو الذي ملكه إياه، لم يُملِّكه أن يُحرمها ابتداء تحريماً تاماً من غير تقدم تطليقتين. وباللَّه التوفيق. قد ذكرنا حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المختلعة أنها تعتد بحيضة، وأن هذا مذهب عثمان بن عفان، وابن عباس، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، اختارها شيخنا. ونحن نذكر الأحاديث بذلك بإسنادها. قال النسائى في (سننه الكبير): باب في عدة المختلعة. أخبرنى أبو على محمد بن يحيى المروزى، حدثنا شاذان عبد العزيز بن عثمان أخو عَبْدان، حدثنا أبى، حدثنا على بن المبارك، عن يحيى بن أبى كثير، قال: أخبرنى محمد بن عبد الرحمن، أن رُبَيِّع بنتَ معوِّذ بنِ عفراء، أخبرته أن ثابتَ ابن قيس بن شماس ضرب امرأته، فكسرَ يدها وهى جميلة بنت عبد اللَّه ابن أبى، فجاء أخوها يشتكيه إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى ثابت، فقال: (خُذ الذي لها عليك، وخلِّ سبيلها) فقال: نعم، فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها. أخبرنا عُبيدُ اللَّهِ بنُ سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: حدثنى عمي، قال: أخبرنا أبى، عن ابن إسحاق، قال: حدثنى عُبادة بن الوليد بن عبادة ابن الصامت، عن رُبَيِّعِ بنتِ معوِّذ، قال: قلتُ لها: حدثينى حديثَك، قالت: اختلعتُ من زوجى، ثم جئتُ عثمان، فسألتُ ماذا علىَّ مِن العِدة، قال: لا عِدة عَلَيْك إلا أن يكونَ حديثَ عهد بك فتمكُثين حتى تحيضى حَيضة. قالت: وإنما تَبعَ في ذلك قضاءَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مريم المَغَالِيَّة، كانت تحتَ ثابتِ بنِ قيس بن شماس، فاختلعت منه. وروى عكرمةُ عن ابن عباس رضى اللَّه عنه، أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عِدَّتَها حيضة. رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحيم البزاز، عن على بن بحر القطان، عن هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة. ورواه الترمذي: عن محمد بن عبد الرحيم بهذا السند بعينه. وقال: حديث حسن غريب. وهذا كما أنه موجبُ السنة وقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وموافقٌ لأقوالِ الصحابة، فهو مقتضى القياس، فإنه استبراءٌ لمجرد العلم ببراءة الرحم، فكفت فيه حيضة، كالمسبية والأمة المستبرأة، والحرة، والمهاجرة، والزانية إذا أرادت أن تنكِحَ. وقد تقدم أن الشارع مِن تمام حكمته جعل عِدة الرجعية ثلاثة قروء لمصلحة المطلق، والمرأة ليطول زمان الرجعة، وقد تقدم النقصُ على هذه الحكمة، والجواب عنه. ثبت في (السنن): عن زينبَ بنتِ كعب بن عجرة، عن الفُريعة بنت مالك أخت أبى سعيد الخُدرى، أنها جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجعَ إلى أهلها في بنى خُدرة، فإن زوجها خرج في طلب أَعْبُدٍ له أَبَقُوا، حتى إذا كانُوا بطرف القُدُوم، لحقهم فقتلُوه، فسألتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلى، فإنه لم يتركنى في مسكن يَمِلكُه ولا نفقة، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (نعم) فخرجتُ حتى إذا كُنْتُ في الحجرة أو في المسجد، دعانى أو أمر بى فدعيتُ له، فقال:(كيف قُلتِ)؟ فرددتُ عليه القِصةَ التي ذكرتُ من شأن زوجى، قالت: فقال: (امْكُثى في بَيْتك حَتَّى يَبْلغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ)، قالت: فاعتددتُ فيه أربعةَ أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان، أرسل إلىَّ فسألنى عن ذلك، فأخبرته، فقضى به، واتبعه. قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح، وقال أبو عمر بن عبد البر: هذا حديثٌ مشهور معروف عند علماء الحجاز والعراق. وقال أبو محمد ابن حزم: هذا الحديث لا يثبت، فإن زينب هذه مجهولة، لم يروِ حديثَها غير سعد بن إسحاق بن كعب وهو غير مشهور بالعدالة، ومالك رحمه اللَّه وغيره يقول فيه: سعد بن إسحاق، وسفيان يقول: سعيد. وما قاله أبو محمد غيرُ صحيح، فالحديث حديث صحيح مشهور في الحجاز والعراق، وأدخله مالك في (موطئه)، واحتج به، وبنى عليه مذهبه. وأما قوله: إن زينب بنت كعب مجهولة، فنعم مجهولةٌ عنده، فكان ماذا؟ وزينبُ هذه من التابعيات، وهى امرأة أبى سعيد، روى عنها سعد بن إسحاق بن كعب، وليس بسعيد، وقد ذكرها ابن حبان في كتاب الثقات. والذي غر أبا محمد قولُ على بن المدينى: لم يرو عنها غيرُ سعد بن إسحاق وقد روينا في مسند الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثنى عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عُجرة، عن عمته زينبَ بنتِ كعب بن عُجرة وكانت عند أبى سعيد الخُدرى، عن أبى سعيد، قال: اشتكى الناسُ علياً رضى اللَّه عنه، فقام النبىُّ صلى الله عليه وسلم خطيباً، فسمعتُه يقول: (يَا أيُّها النَّاسُ لا تَشْكُوا عَلِيًّا، فَواللَّهِ لأَخْشَنٌ في ذَاتِ اللَّهِ أو في سَبِيلِ اللَّهِ)، فهذه امرأة تابعية كانت تحتَ صحابى، وروى عنها الثقات، ولم يُطعن فيها بحرف، واحتج الأئمة بحديثها وصححوه.وأَما قولُه: إن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة، فقد قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. وقال النسائى أيضاً، والدارقطنى أيضاً: ثقة وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حيان في كتاب الثقات، وقد روى عنه الناس: حمادُ بن زيد، وسفيانُ الثورى، وعبدُ العزيز الدراوردى، وابنُ جريج، ومالكُ بن أنس، ويحيى ابن سعيد الأنصارى، والزهرى، وهو أكبرُ منه، وحاتمُ بن إسماعيل وداودُ بن قيس، وخلق سواهم من الأئمة، ولم يُعلم فيه قدح ولا جرح البتة، ومثل هذا يُحتج به اتفاقاً. وقد اختلف الصحابةُ رضى اللَّه عنهم ومَنْ بعدهم في حكم هذه المسألة. فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عروة بن الزبير. عن عائشة رضى اللَّه عنها. أنها كانت تُفتى المتوفى عنها بالخروج في عدتها، وخرجت بأختها أمِّ كلثُوم حين قُتِلَ عنها طلحة بن عبيد اللَّه إلى مكة في عمرة.ومن طريق عبد الرزاق أخبرنا ابنُ جريج، أخبرنى عطاء، عن ابن عباس أنه قال: إنما قالَ اللَّهُ عز وجل: تعتد أربعَة أشهر وعشراً، ولم يقل: تعتد في بيتها، فتعتد حيث شاءت وهذا الحديث سمعه عطاء من ابن عباس، فإن على بن المدينى: قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعتُ ابنَ عباس يقول: قال اللَّه تعالى: وقال عبد الرازق: حدثنا ابن جريج، أخبرنى أبو الزبير، أنه سمع جابرَ بن عبد اللَّه يقول: تعتدُّ المتوَّفى عنها حيثُ شاءت. وقال عبد الرزاق عن الثورى، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، أن على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه، كان يُرحِّلُ المتوفَّى عنهن في عدتهن. وذكر عبد الرزاق أيضاً، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاووس وعطاء، قالا جميعاً: المبتوتة والمتوفى عنها تَحُجَّانِ وتعتمِرَان، وتنتقلان وتبيتان. وذكر أيضاً عن ابن جريج، عن عطاء قال: لاَ يَضرُّ المتوفَّى عنها أينَ اعتدت. وقال ابنُ عُيينة: عن عمرو بن دينار، عن عطاء وأبى الشعثاء، قالا جميعاً: المتوفَّى عنها تخرُج في عدتها حيث شاءت. وذكر ابنُ أبى شيبة، حدثنا عبد الوهَّاب الثقفى، عن حبيب المعلم، قال: سألتُ عطاء عن المطلقة ثلاثاً، والمتوفَّى عنها، أتَحُجَّان في عِدتهما؟ قال: نعم. وكان الحسن يقولُ بمثل ذلك. وقال ابن وهب: أخبرنى ابن لهيعة، عن حنين بن أبى حكيم، أن امرأة مُزاحم لما توفى عنها زوجها بخناصرة، سألت عمر بن عبد العزيز، أأمكث حتى تنقضىَ عِدتى؟ فقال لها: بل الحقى بقرارك ودار أبيك، فاعتدى فيها. قال ابن وهب: وأخبرنى يحيى بنُ أيوب، عن يحيى بن سعيد الأنصارى أنه قال في رجل توفى بالاسكندرية ومعه امرأتُه، وله بها دار، وله بالفُسطاط دار، فقال: إن أحبَّت أن تعتدَّ حيثُ توفِّىَ زوجُها فلتعتد، وإن أحبَّتْ أن ترجِعَ إلى دار زوجها وقراره بالفُسطاط، فتعتد فيها فلترجع. قال ابن وهب: وأخبرنى عمرو بن الحارث، عن بُكير بن الأشج، قال: سألتُ سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن المرأة يخرج بها زوجُها إلى بلد فيتوفى؟ قال: تعتد حيث توفى عنها زوجها، أو ترجعُ إلى بيت زوجها حتى تنقضى عدتها وهذا مذهبُ أهل الظاهر كُلِّهم.ولأصحاب هذا القولِ حُجتان، احتج بهما ابنُ عباس،وقد حكينا إحداهما، وهى: أن اللَّه سبحانه إنما أمرها بإعتداد أربعة أشهر وعشر، ولم يأمرها بمكان معين. والثانية: ما رواه أَبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزى، حدثنا موسى بن مسعود، حدثنا شِبل، عن ابن أبى نجيح، قال: قال عطاء: قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتَها عندَ أهلها، فتعتد حيثُ شاءت، وهو قولُ اللَّه عز وجل: وقالت طائفة ثانية مِن الصحابة والتابعين بعدهم: تعتدُّ في منزلها التي تُوفى زوجها وهى فيه، قال وكيع: حدثنا الثورىُّ، عن منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب ان عمر ردَّ نِسوة من ذى الحُليفة حاجَّاتٍ أو معتمراتٍ توفى عنهن أزواجهن. وقال عبدُ الرزاق: حدثنا ابنُ جُريج، أخبرنا حُميدُ الأعرج، عن مجاهد قال: كان عمر وعثمان يرجعانهن حاجَّاتٍ ومعتمراتٍ من الجُحفة وذى الحُليفة. وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن يوسف بن ماهك عن أمه مُسيكة، أن امرأة متوفَّى عنها زارت أهلها في عِدتها، فضربها الطلق، فأتوْا عثمان، فقال: احمِلُوها إلى بيتها وهى تُطْلَقُ. وذكر أيضاً عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كانت له ابنة تعتدُّ مِن وفاة زوجها، وكانت تأتيهم بالنَّهار، فَتَتَحدَّثُ إليهم، فإذا كان الليل، أمَرها أن ترجعَ إلى بيتها. وقال ابنُ أبى شيبة: حدثنا وكيع، عن على بن المبارك، عن يحيى بن أبى كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، أن عُمر رخَّص للمتوفى عنها أن تأتى أهلها بياض يومها، وأن زيدَ بن ثابت لم يُرَخِّص لها إلا في بياض يومها أو ليلها. وذكر عبد الرزاق عن سفيان الثورى، عن منصور بن المعتمِر، عن إبراهيم النَّخَعى، عن علقمة، قال: سأل ابنَ مسعود نساء من همدان نُعِىَ إليهن أزواجُهن، فَقُلْنَ: إنا نَستَوحِشُ، فقال ابنُ مسعود: تجتمِعْنَ بالنهارِ، ثم ترجعُ كلُّ امرأة منكن إلى بيتها بالليل. وذكر الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عَوانة، عن منصور، عن إبراهيم، أن امرأة بعثت إلى أمِّ سلمة أمِّ المؤمنين رضى اللَّه عنها: إن أبى مريض، وأنا في عِدة، أفآتيه أُمرضه؟ قالت: نعم ولكن بيتى أحدَ طرفى الليل في بيتك. وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشيم، أنبأنا إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، أنه سُئِلَ عن المتوفَّى عنها: أتخرج في عدتها؟ فقال: كانَ أكثرُ أصحاب ابن مسعود أشدَّ شىء في ذلك، يقولون: لا تخرُج، وكان الشيخ يعنى على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه يُرحلها. وقال حمَّادُ بنُ سلمة: أخبرنا هِشام بن عُروة، أن أباه قال: المتوفَّى عنها زوجُها تعتدُّ في بيتها إلا أن ينتوى أهلُها فتنتوى معهم. وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشيم، أخبرنا يحيى بن سعيد هو الأنصارى، أن القاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللَّه، وسعيد بن المسيِّب قالوا في المتوفَّى عنها: لا تبَرحُ حتى تنقضى عِدتُها. وذكر أيضاً عن ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وجابر، كِلاهما قال في المتوفَّى عنها: لا تخرُجُ. وذكر وكيع، عن المحسن بن صالح، عن المغيرة، عن إبراهيم في المتوفَّى عنها: لا بأس أن تخُرجَ بالنهار، ولا تبيتُ عن بيتها. وذكر حماد بن زيد، عن أيوب السَّختيانى، عن محمد بن سيرين، أن امرأة تُوفى عنها زوجُها وهى مريضة، فنقلها أهلُها، ثم سألوا، فَكُلٌُّهم يأمرهم أن تُرد إلى بيت زوجها، قال ابنُ سيرين: فرددناها في نَمَطٍ، وهذا قولُ الإمام أحمد. ومالك. والشافعى. وأبى حنيفة رحمهم اللَّه، وأصحابهم، والأوزاعى، وأبى عُبيد، وإسحاق. قال أبو عُمر بن عبد البر: وبه يَقول جماعةُ فقهاء الأمصار بالحجاز والشام، والعراق، ومصر. وحجة هؤلاء حديث الفُريعة بنت مالك، وقد تلقاه عثمانُ بنُ عفان رضى اللَّه عنه بالقبول، وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار، وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول، ولم يُعْلَمْ أن أحداً منهم طعن فيه، ولا في رواته، وهذا مالك مع تحريه وتشدُّدِهِ في الرواية. وقوله للسائلِ له عن رجل: أثقة هو؟ فقال: لو كان ثقة لرأيته في كتبى: قد أدخله في (موطئه)، وبنى عليه مذهبَه. قالوا: ونحن لا نُنكر النزاعَ بين السلف في المسألة، ولكن السنة تفصِلُ بين المتنازعين. قال أبو عمر بن عبد البر: أما السنة، فثابتة بحمد اللَّه. وأما الإجماع، فمستغنى عنه مع السنة، لأن الإختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهرى، قال أَخَذَ المترخِّصون في المتوفِّى عنها بقول عائشة رضى اللَّه عنها، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر. فإن قيل: فهل ملازمة المنزل حقٌّ عليها، أو حق لها؟ قيل: بل هو حَق عليها إذا تركه لها الورثة، ولم يكن عليها فيه ضررٌ أو كان المسكن لها، فلو حَّولها الوراث، أو طَلَبوا منها الأجرة، لم يلزمها السكن، وجاز لها التحولُ. ثم اختلف أصحابُ هذا القول: هل لها أن تتحول حيثُ شاءت، أو يلزمُها التحولُ إلى أقرب المساكن إلى مسكن الوفاة؟ على قولين. فإن خافت هدماً أو غَرَقاً، أو عدواً أو نحو ذلك، أو حوّلها صاحبُ المنزل لكونه عارِيَّة رجع فيها، أو بإجارة انقضت مدتُها، أو منعها السكنى تعديًا، أو امتنع من إجارته، أو طلب به أكثر من أجر المثل، أو لم تَجِدْ ما تكترى به، أو لم تجِدْ إلا من مالها، فلها أن تنتقِلَ، لأنها حالُ عذر، ولا يلزمها بذلُ أجر المسكن، وإنما الواجبُ عليها فِعل السُّكنى لا تحصيلُ المسكن، وإذا تعذرت السُّكنى، سقطت، وهذا قول أحمد والشافعى. فإن قيل: فهل الإسكان حقٌّ على الورثةِ تُقدَّمُ الزوجة به على الغرماء، وعلى الميراث، أم لا حق لها في التركة سوى الميراث؟ قيل: هذا موضوع اختلف فيه. فقال الإمام أحمد: إن كانت حائلاً، فلا سُكنى لها في التركة، ولكن عليها ملازمة المنزل إذا بُذِلَ لها كما تقدم، وإن كانت حاملاً، ففيه روايتان إحداهما أن الحكم كذلك. والثانى: أن لها السُّكنى حق ثابت في المال، تُقدَّمُ به على الورثة والغرماء، ويكون من رأس المال، لا تُباع الدار في دينه بيعاً يمنعُها سكناها حتى تنقضي عدتها، وإن تعذر ذلك، فعلى الوارث أن يكترىَ لها سكناً من مال الميت. فإن لم يفعل، أجبره الحاكمُ، وليس لها أن تنتقِلَ عنه إلا لضرورة. وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه، لم يَجُزْ، لأنه يتعلق بهذه السكنى حقُّ اللَّه تعالى، فلم يجز اتفاقُهما على إبطالها، بخلاف سُكنى النكاح، فإنها حقٌّ للَّه تعالى، لأنها وجبت مِن حقوق العِدة، والعِدة فيها حقٌّ للزوجين. والصحيح المنصوص: أن سكنى الرجعية كذلك، ولا يجوز اتفاقهما على إبطالها، هذا متقضى نص الآية، وهو منصوص أحمد وعنه رواية ثالثة: أن للمتوفَّى عنها السُّكنى بكل حال، حاملاً كانت أو حائلاً، فصار في مذهبه ثلاثُ روايات: وجوبها للحامل، والحائل، وإسقاطها في حقهما ووجوبها للحامل دون الحائل، هذا تحصيلُ مذهب أحمد في سكنى المتوفى عنها. وأما مذهب مالك، فإيجاب السكنى لها حاملاً كانت أو حائلاً، وإيجابُ السكنى عليها مدة العِدة، قال أبو عمر: فإذا كان المسكن بكراءٍ؟ فقال مالك: هي أحقُّ بسكناه من الورثة والغرماء، وهو مِن رأس مال المتوفَّى، إلا أن يكونَ فيه عقد لزوجها وأراد أهل المسكن إخراجَها. وإذا كان المسكنُ لزوجها، لم يُبع في دينه حتى تنقضى عدتها، انتهى كلامه. وقال غيرُه من أصحاب مالك: هي أحقُّ بالسكنى من الورثة والغرماء إذا كان الملك للميت، أو كان قد أدَّى كِراءه، وإن لم يكن قد أدى، ففى (التهذيب): لا سُكنى لها في مال الميت، وإن كان موسِراً. وَرَوَى محمد، عن مالك: الكراء لازم للميت في ماله، ولا تكون الزوجةُ أحقَّ به، وتُحاصُّ الورثة في السكنى، وللورثة إخراجُها إلا أن تُحِبَّ أن تسكن في حصتها، وتؤدى كِراء حصتهم. وأما مذهب الشافعى: فإن له في سكنى المتوفى عنها قولين، أحدُهما: لها السُّكنى حاملاً كانت أو حائلاً. والثانى: لا سُكنى لها حاملاً كانت أو حائلاً، ويجب عنده ملازمتُها للمسكن في العِدة بائناً كانت أو متوفى عنها، وملازمة البائن للمنزل عنده آكدُ مِن ملازمة المتوفىَّ عنها، فإنه يجوز للمتوفَّى عنها الخروجُ نهاراً لقضاء حوائجها، ولا يجوزُ ذلك في البائن في أحد قوليه وهو القديمُ، ولا يُوجبه في الرجعية بل يستحبه. وأما أحمد، فعنده ملازمةُ المتوفَّى عنها آكدُ مِن الرجعية، ولا يُوجبه في البائن. وأورد أصحاب الشافعى رحمه اللَّه على نصه بوجوب ملازمة المنزل على المتوفَّى عنها مع نصه في أحد القولين، على أنه لا سكنى لها سؤالاً وقالوا: كيف يجتمع النَّصَّان، وأجابوا بجوابين. أحدهما: أنه لا تجِبُ عليها ملازمةُ المسكن على ذلك القول، لكن لو ألزم الوارثُ أجرة المسكن، وجبت عليها الملازمةُ حينئذ، وأطلق أكثرُ أصحابه الجواب هكذا. والثانى: أن ملازمة المنزل واجبة عليها ما لم يكن عليها فيه ضرر بأن تُطالب بالأجرة، أو يُخرجها الوارث، أو المالك، فتسقط حينئذ. وأما أصحاب أبى حنيفة، فقالوا: لا يجوزُ للمطلقة الرجعية، ولا للبائن الخروجُ مِن بيتها ليلاً ولا نهاراً، وأما المتوفى عنها، فتخرج نهاراً وبعض الليل، ولكن لا تبيتُ في منزلها، قالوا: والفرقُ أن المطلقة نفقتُها في مال زوجها. فلا يجوز لها الخروجُ كالزوجة، بخلاف المتوفى عنها، فإنها لا نَفَقَةَ لها، فلا بد أن تخْرُجَ بالنهار لإصلاح حالها، قالوا: وعليها أن تعتد في المنزل الذي يُضاف إليها بالسكنى حالَ وقوع الفرقة، قالوا: فإن كان نصيبُها مِن دار الميت لا يكفيها، أو أخرجها الورثةُ من نصيبهم، انتقلت، لأن هذا عذر، والكونُ في بيتها عبادة، والعبادةُ تسقط بالعذر قالوا: فإن عجزت عن كراء البيت الذي هي فيه لكثرته، فلها أن تنتقِلَ إلى بيت أقلَّ كراء منه، وهذا مِن كلامهم يدل على أن أجرة السكن عليها، وإنما يَسقط السكن عنها لعِجزها عن أجرته، ولهذا صرَّحوا بأنها تسكن في نصيبها من التركة إن كفاها، وهذا لأنه لا سُكنى عندهم للمتوفى عنها حاملاً كانت أو حائلاً، وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذي توفِّى زوجُها، وهى فيه ليلاً لا نهاراً، فإن بذله لها الورثةُ وإلاّ كانت الأجرة عليها، فهذا تحريرُ مذاهب الناس في هذه المسألة، ومأخذُ الخلاف فيها وباللَّه التوفيق. ولقد أصاب فريعَة بنتَ مالك في هذا الحديث نظيرُ ما أصاب فاطمة بنت قيس في حديثها، فقال بعضُ المنازعين في هذه المسألة: لا ندعُ كتابَ ربنا لقول امرأة، فإن اللَّه سبحانه إنما أمرها بالاعتداد أربعة أشهر وعشراً، ولم يأمرها بالمنزل. وقد أنكرت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها وجوبَ المنزل، وأفتت المتوفَّى عنها بالاعتداد حيث شاءت كما أنكرت حديثَ فاطمة بنت قيس، وأوجبت السكنى للمطلقة. وقال بعضُ من نازع في حديث الفُريعة: قد قُتِلَ مِن الصحابة رضى اللَّه عنهم على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلقٌ كثير يوم أحد، ويومَ بئر مَعونة، ويومَ مؤتة وغيرِها، واعتدَّ أزواجُهم بعدهم، فلو كان كلُّ امرأة منهن تُلازم منزلها زمن العدة، لكان ذلك من أظهرِ الأشياء، وأبينها بحيثُ لا يخفى على من هو دونَ ابن عباس وعائشة، فكيف خفى هذا عليهما وعلى غيرهما من الصحابة الذين حكى أقوالهم، مع استمرار العمل به استمراراً شائعاً، هذا من أبعد الأشياء، ثم لو كانت السنَّةُ جارية بذلك، لم تأت الفُريعة تستأذنهُ صلى الله عليه وسلم أن تلحق بأهلها، ولمَا أذِنَ لها في ذلك، ثم يأمرُ بردها بعد ذهابها، ويأمرها بأن تمكث في بيتها فلو كان ذلك أمراً مستمراً ثابتاً، لكان قد نسخ بإذنه لها في اللحاق بأهلها، ثم نسخ ذلك الإذن بأمره لها بالمُكث في بيتها، فُيفضى إلى تغيير الحكم مرتين، وهذا لا عهد لنا به في الشريعة في موضع متيقن. قال الآخرون: ليس في هذا ما يوجب رد هذه السنة الصحيحة الصريحة التي تلقَّاها أميرُ المؤمنين عثمان بن عفان، وأكابرُ الصحابة بالقبول، ونفذها عثمان، وحكم بها، ولو كنا لا نقبلُ رواية النساء عن النبى صلى الله عليه وسلم، لذهبت سننٌ كثيرة مِن سُنن الإسلام لا يُعرف أنه رواها عنه إلا النساء، وهذا كتابُ اللَّه ليس فيه ما ينبغى وجوب الاعتداد في المنزل حتى تكون السنةُ مخالفة له، بل غايتُها أن تكونَ بياناً لحكم سكت عنه الكتاب، ومثل هذا لا تُرد به السننُ، وهذا الذي حذَّر منه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعينه أن تترك السنة إذا لم يكن نظيرُ حكمها في الكتاب. وأما تركُ أمِّ المؤمنين رضى اللَّه عنها لحديث الفُريعة، فلعله لم يَبلُغْها، ولو بلغها فلعلها تأولته، ولو لم تتأولْه، فلعله قام عندها معارض له، وبكل حال فالقائلون به في تركهم لتركها لهذا الحديث أعذرُ من التاركين له لترك أمِّ المؤمنين له، فبين التركَين فرقٌ عظيم.وأما من قُتِلَ مع النبى صلى الله عليه وسلم، ومن مات في حياته، فلم يأتِ قطُّ أن نساءكم كن يعتَدِدْنَ حيث شِئن، ولم يأت عنهن ما يُخالف حُكمَ حديثِ فُريعة البتة، فلا يجوز تركُ السنة الثابتة لأمر لا يُعلم كيف كان، ولو عُلِمَ أَنهن كن يَعتَدِدْنَ حيث شئن، ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث الفريعة، فلعل ذلك قبل استقرار هذا الحكم وثبوته حيث كان الأصلُ براءة الذمة، وعدم الوجوب. وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عبد اللَّه بن كثير، قال: قال مجاهد: استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلن: إنا نستوحِشُ يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالليل، فنبيت عند إحدانا، حتى إذا أصبحنا تبددنا في بيوتتنا فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلتَؤُبْ كُلُّ امْرَأةٍ إلى بَيْتِها) وهذا وإن كان مرسلاً، فالظاهِر أن مجاهداً إما أن يكون سمعه مِن تابعى ثقة، أو مِن صحابى، والتابعون لم يكن الكذبُ معروفاً فيهم، وهم ثانى القرون المفضلة، وقد شاهدُوا أصحابَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأخذوا العِلمَ عنهم، وهم خيرُ الأمة بعدهم، فلا يُظن بهم الكذبُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا الروايةُ عن الكذابين، ولا سيما العالمُ منهم إذا جزمَ على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالرواية، وشَهِدَ له بالحديث، فقال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفعلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمرَ ونهى، فيبعد كُلَّ البعد أن يُقْدِمَ على ذلك مع كون الواسطة بينه وبينَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كذاباً أو مجهولاً، وهذا بخلاف مراسيل من بعدهم، فكلما تأخرت القرونُ ساء الظن بالمراسيل، ولم يشهد بها على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبالجملة فليس الاعتماد على هذا المرسل وحَده، وباللَّه التوفيق. ثبت في (الصحيحين): عن حُميد بن نافع، عن زينب بنت أبى سلمة، أنها أخبرته هذه الأحاديثَ الثلاثة، قالت زينبُ: دخلت على أمِّ حبيبة رضى اللَّه عنها زوج النبى صلى الله عليه وسلم حين تُوفى أبوها أبو سفيان، فدعت أمُّ حبيبة رضى اللَّه عنها بطيبٍ فيه صُفرةٌ خَلُوقٌ أو غيرُه، فدهنت منه جاريةً، ثم مسَّت بعارضيها، ثم قالت: واللَّه مالى بالطِّيبِ من حاجة، غير أنى سمعت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَوْم الآخرِ تُحِدُّ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثلاث إلاَّ عَلى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً). قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين تُوفى أخوها فدعت بطيب، فمسَّت منه، ثم قالت: واللَّهِ مالى بالطيبِ من حاجة، غير أنى سمعت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: (لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّه وَاليَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً). قالت زينبُ: وسمعت أُمِّى أمَّ سلمة رضى اللَّه عنها تقولُ: جاءت امرأة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه: إن بنتى توفى عنها زوجها، وقد اشتكت عينُها، أَفَتكْحَلُها؟ فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا)، مرتين، أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: (لا)، ثم قال: (إنَّما هي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ في الجَاهِلِيَّةِ تَرْمى بالبَعْرَةِ عَلى رَأْسِ الحَوْلِ). فقالت زينب: كانتِ المرأة إذا تُوفى عنها زوجُها، دخلت حِفْشاً، ولَبِسَتْ شَرَّ ثِيابِها، ولم تَمَسَّ طِيباً ولا شيئاً حتى يَمُرَّ بها سنة، ثُم تُؤتى بدابةٍ حمارٍ، أو شاةٍ أو طير، فتفتَضُّ به، فقلما تفتضُّ بشىء إلا مات، ثم تَخْرجُ، فُتعطى بعرة، فترمى بها، ثم تُراجع بعدُ ما شاءت مِن طيب أو غيره. قال مالك تفتض: تمسح به جلدها. وفى (الصحيحين): عن أمِّ سلمة رضى اللَّه عنها: أن امرأة تُوفى عنها زوجُها، فخافوا على عينها، فأَتْوا النبى صلى الله عليه وسلم، فاستأذنوه في الكُحْل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تكُونُ في شَرِّ بَيْتِها، أَوْ في شَرِّ أحْلاَسِها في بَيْتِها حَوْلاً، فإذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ ببَعْرَةٍ، فَخَرَجَتْ أفَلاَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً). وفى (الصحيحين) عن أَمِّ عَطيَّة الأنصارية رضى اللَّه عَنها، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تُحِدُّ المرْأَةُ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلى زَوْجٍ أَرْبَعةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، ولاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلاَ تَكْتَحِلُ وَلاَ تَمَسُّ طيباً إلا إذا طَهُرَت نُبْذةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ). وفى سنن داود: من حديث الحسن بن مسلم، عن صفيّةبنت شيبة، عن أمِّ سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المُتَوَفىَّ عَنْها زَوْجها لاَ تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثياب وَلاَ المُمَشَّقَةَ، وَلاَ الحُلىَّ وَلاَ تكْتَحِلُ، وَلاَ تَخْتَضِبُ).وفى (سننه) أيضاً: من حديث ابن وهب، أخبرنى مخرمة، عن أبيه قال: سمعتُ المغيرةَ بنَ الضحاك يقول: أخبرتنى أمُّ حكيم بنت أَسْيَدٍ، عن أمها، أن زوجَها تُوفى، وكانت تشتكى عينيها فتكتحِلُ بالجَلاء. قال أحمد بن صالح رحمه اللَّه: الصوابُ: الصوابُ: بِكُحْلِ الجلاء فأرسلت مولاةً لها إلى أمِّ سلمة رضى اللَّه عنها، فسألتها عن كُحل الجَلاء، فقالت: لا تكتحِلىْ به إلا مِن أمرٍ لا بد منه يشتدُّ عليك، فتكتحلين بالليل، وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أمُّ سلمة: دخل علىَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين تُوفى أبو سلمة وقد جعلت على عَيْنَىَّ صَبِراً، فقال: (ما هذا يَا أُمَّ سلمة)؟ فقلت: إنما هو صَبِرٌ يا رسَوُلَ اللَّه، ليس فيه طِيب. فقال: (إنَّه يَشُبُّ الوَجْهَ فَلاَ تَجْعَليه إلاَّ بالَّليْل، وَتَنْزعيهِ بِالنَّهار، ولا تَمْتَشِطى بِالطَّيب وَلاَ بِالحِنَّاءِ فَإنَّهُ خِضَابٌ)، قالت: قلت: بأى شىء أمتَشِطُ يا رسول اللَّه؟ قال: (بالسِّدْر تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَك). وقد تضمنت هذه السنة أحكاماً عديدة. أحدها: أنه لا يجوزُ الإحدادُ على مِّيتٍ فوقَ ثلاثة أيامِ كائناً من كان، إلا الزوجَ وحدَه. وتضمن الحديثُ الفرقَ بين الإحدادين من وجهين. أحدهما: من جهة الوجوب والجواز، فإن الإحداد على الزوج واجب، وعلى غيره جائز. الثانى: من مقدار مدة الإحداد، فالإحدادُ على الزوج عزيمة، وعلى غيره رخصة وأجمعت الأمة على وجوبه على المتوفَّى عنها زوجُها إلا ما حُكى عن الحسن، والحكم بن عتيبة. أما الحسن، فروى حماد بن سلمة، عن حميد، عنه، أن المطلقة ثلاثاً، والمتوفَّى عنها زوجُها تكتحلان وتمتشِطَان، وتتطيَّبانِ وتختضِبان، وتنتقلان، وتصنعان ما شاءتا، وأما الحكم: فذكر عنه شعبةُ: أن المتوفى عنها لا تُحِدُّ. قال ابنُ حزم: واحتج أهل هذه المقالة، ثم ساق مِن طريق أبى الحسن محمد بن عبد السلام، حدثنا محمدُ بنُ بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعبة، حدثنا الحكم بن عتيبة، عن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لامرأة جعفر بن أبى طالب: (إذا كَانَ ثلاثَة أيَّامٍ فالبَسى ما شئتِ، أو إذا كَانَ بَعْدَ ثلاثة أيام) شعبة شك. ومن طريق حماد بنِ سلمة، حدثنا الحجَّاج بنُ أرطاة، عن الحسن ابن سَعدِ، عن عبد اللَّه بن شداد، أن أسماءَ بنت عُميس استأذنتِ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أن تبكى على جعفر وهى امرأتُه، فَأذِنَ لها ثلاثةَ أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهرى واكتحلى. قالوا: وهذا ناسخ لأحاديث الإحداد، لأنه بعدها، فإن أم سلمة رضى اللَّه عنها روت حديث الإحداد، وأنه صلَّى اللَّه عليه وسلم أمرها به إثر موتِ أبى سلمة ولا خلاف أن موت أبى سلمة كان قبل موتِ جعفر رضى اللَّه عنهما. وأجاب الناسُ عن ذلك بأن هذا حديث منقطع، فإن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد لم يسمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا رآه، فكيف يُقَدَّمُ حديثُه على الأحاديث الصحيحة المسندة التي لا مطعن فيها؟ وفى الحديث الثانى: الحجاج بن أرطاة، ولا يُعارض بحديثه حديثُ الأئمة الذين هم فرسانُ الحديث. الحكم الثانى: أن الإحداد تابع للعِدة بالشهور، أما الحامل، فإذا انقضى حملُها، سقط وجوْبُ الإحداد عنها اتفاقاً، فإن لها أن تتزوج، وتتجمَّل، وتتطيَّب لزوجها، وتتزيَّن له ما شاءت. فإن قيل: فإذا زادت مدةُ الحمل على أربعةِ أشهر وعشر، فهل يسقطُ وجوبُ الإحداد، أم يستمِرُّ إلى الوضع؟ قيل: بل يستمِرُ الإحداد إلى حين الوضع، فإنه من توابع العدة، ولهذا قُيِّد بمدتها، وهو حُكم من أحكام العِدة، وواجب من واجباتها، فكان معها وجوداً وعدماً. الحكم الثالث: أن الإحداد تستوى فيه جميعُ الزوجات المسلمة والكافرة، والحُرة والأمة، والصغيرة والكبير، وهذا قولُ الجمهور: أحمد، والشافعى، ومالك. إلا أن أشهب، وابنَ نافع قالا: لا إحداد على الذمية، ورواه أشهب عن مالك، وهو قولُ أبى حنيفة، ولا إحداد عنده على الصغيرة. واحتج أربابُ هذا القول بأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم جعل الإحداد من أحكام من يؤمن باللَّه واليوم الآخر، فلا تدخُلُ فيه الكافرةُ، ولأنها غيرُ مكلَّفة بأحكام الفروع. قالوا: وعدو لُه عن اللفظ العام المطلق إلى الخاص المقيَّد بالإيمان يقتضى أن هذا من أحكام الإيمان ولوازِمه وواجباته، فكأنه قال: من التزم الإيمان فهذا من شرائعه وواجباته. والتحقيقُ أن نفى حِلِّ الفعل عن المؤمنين لا يقتضى نفىَ حُكمه عن الكفار، ولا إثباتَ لهم أيضاً، وإنما يقتضى أن من التزم الإيمان وشرائعه، فهذا لا يَحِلُ له، ويجب على كل حال أن يلزم الإيمان وشرائعه، ولكن لا يلزمه الشارعُ شرائعَ الإيمان إلا بعد دخلوه فيه، وهذا كما لو قيل: لا يحِل لمؤمن أن يترُك الصلاة والحجَّ والزكاة، فهذا لا يدل على أن ذلك حِلٌّ للكافر. وهذا كما قال في لباس الحرير: (لاَ يَنْبَغى هذَا لِلمُتَّقِينَ)، فلا يدل أنه ينبغى لغيرهم. وكذا قوله: (لاَ يَنْبَغى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ لَعَّاناً). وسر المسألة: أن شرائعَ الحلال والحرام والإيجاب، إنما شُرعَتْ لمن التزم الإيمان، ومن لم يلتَزمه وخلى بينه وبين دينه، فإنه يُخلى بينَه وبينَ شرائع الدين الذي التزمه، كما خُلِّىَ بينه وبين أصله ما لم يُحاكم إلينا، وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء، ولكن عذرُ الذين أوجبوا الإحداد على الذمية، أنه يتعلق به حقُّ الزوجِ المسلم، وكان منه إلزامها به كأصل العدة، ولهذا لا يُلزمونها به في عِدتها مِن الذمى، ولا يُتعرض لها فيها، فصار هذا كعقودهم مع المسلمين، فإنهم يُلزمون فيها بأحكام الإسلام وإن لم يتعرض لِعقودِهم مع بعضهم بعضاً، ومن يُنازعهم في ذلك يقولون: الإحدادُ حق للَّه تعالى، ولهذا لو اتفقت هي والأولياء والمتوفَّى على سقوطه بأن أوصاها بتركه، لم يسقط، ولزمها الإتيانُ به فهو جارٍ مجرى العِبادات وليست الذمية من أهلها، فهذا سر المسألة. الحكم الرابع: أن الإحداد لا يجبُ على الأمة، ولا أمِّ الولد إذا مات سيدُهما، لأنهما ليسا بزوجين. قال ابنُ المنذر: لا أعلمهم يختلِفُون في ذلك. فإن قيل: فهل لهما تُحِدَّا ثلاثَةَ أيام؟ قيل: نعم لهما ذلك، فإن النصَّ إنما حرم الإحداد فوق الثلاث على غير الزوج، وأوْجَبَه أربعة أَشهر وعشراً على الزوج، فدخلت الأمةُ وأمُّ الولد فيمن يحل لهن الإحداد، لا فيمن يَحْرُمُ عليهن، ولا فيمن يجب. فإن قيل: فهل يجب على المعتدة مِن طلاق أو وطءِ شبهة، أو زنى، أو استبراء إحداد؟ قلنا: هذا هو الحكمُ الخامس الذي دلَّت عليه السنة، أنه لا إحداد على واحدةٍ من هؤلاء، لأن السنة أثبتت ونفت، فخصَّت بالإحدادِ الوَاجِبِ الزوجاتِ، وبالجائز غيرَهن على الأمواتِ خاصة، وما عداهما، فهو داخل في حُكم التحريم على الأموات، فمن أين لكم دخولُه في الإحداد على المطلقة البائن؟ وقد قال سعيدُ بن المسيب، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأبو حنيفة وأصحابُه، والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها الخِرقى: إن البائن يجب عليها الإحدادُ، وهو محضُ القياس، لأنها معتدة بائن مِن نكاح، فلزمها الإحداد كالمتوفَّى عنها، لأنهما اشتركا في العِدة، واختلفا في سببها، ولأن العِدة تُحرِّمُ النكاح، فَحَرُمَتْ دواعيه. قالوا: ولا ريبَ أن الإحداد معقولُ المعنى، وهو أن إظهارَ الزينة والطِّيب والحُلى، مما يدعو المرأة إلى الرجال، ويدعُو الرجال إليها: فلا يُؤمن أن تكذِبَ في انقضاء عدتها استعجالاً لذلك، فمُنِعَتْ مِن دواعى ذلك، وسدت إليه الذريعة، هذا مع أن الكذب في عدة الوفاة يتعذَّر بظهورِ موت الزوج، وكونِ العِدة أيَّامً معدودة، بخلاف عِدة الطلاق، فإنها بالأقراء وهى لا تُعلم إلا من جهتها، فكان الاحتياطُ لها أولى. قيل قد أنكر اللَّهُ سبحانَه وتعالى على مَنْ حَرَّمَ زِيْنَتَهُ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يُحرِّمَ من الزينة إلا ما حرَّمه اللَّه ورسولُه، واللَّه سبحانه قد حرَّم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم زينة الإحداد على المتوفَّى عنها مدة العدة، وأباح رسولُه الإحدادَ بتركها على غير الزوج، فلا يجوز تحريمُ غير ما حرمه، بل هو على أصلِ الإباحة، وليس الإحدادُ مِن لوازم العدة، ولا توابعها، ولهذا لا يجب على الموطوءة بشبهة، ولا المزنى بها، ولا المستبرَأة، ولا الرجعيَّةِ اتفاقاً، وهذا القياسُ أولى مِن قياسها على المتوفى عنها لما بين العِدتين من القُروء قدراً أو سبباً وحكماً، فإلحاقُ عِدة الأقراء بالأقراء أولى من إلحاق عِدة الأقراء بعِدة الوفاة، وليس المقصودُ من الإحداد على الزوج الميت مجرَّدَ ما ذكرتم مِن طلب الاستعجال، فإن العدة فيه لم تكن لمجرد العلم ببراءةِ الرَّحِم، ولهذا تجِبُ قبلَ الدخول، وإنما هو مِن تعظيم هذا العقد وإظهار خطره وشرفه، وأنه عند اللَّه بمكان، فجعلت العدة حريماً له، وجعل الإحداد مِن تمام هذا المقصود وتأكده، ومزيدِ الاعتناء به، حتى جُعلت الزوجة أولى بفعله على زوجها مِن أبيها وابنها وأخيها وسائرِ أقاربها، وهذا مِن تعظيم هذا العقدِ وتشريفِه، وتأكدِ الفرقِ بينه وبين السِّفاح من جميع أحكامه، ولهذا شُرِعَ في ابتدائه إعلانُه، والإشهادُ عليه، والضَّربُ بالدّف لتحقق المضادة بينَه وبينَ السِّفاح، وشرع في آخره، وانتهائه من العدة والإحداد ما لم يُشرع في غيره. الحكم السادس في الخصال التي تجتنِبها الحادةُ، وهى التي دل عليها النصُّ دون الآراءِ والأقوال التي لا دليل عليها وهى أربعة: أحدها: الطيب بقوله في الحديث الصحيح: (لاَ تَمسُّ طِيباً)، ولا خلافَ في تحريمه عند من أوجب الإحداد، ولهذا لما خرجت أمُّ حبيبة رضى اللَّه عنها من إحدادها على أبيها أبى سفيان، دعت بطيب، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم ذكرتِ الحديثَ، ويدخل في الطيب: المسكُ، والعنبرُ، والكافورُ، والند، والغالِية، والزَّباد، والذَّريرة، والبخور، والأدهان، كدُهن البان، والورد والبنفسج، والياسمين، والمياه المعتصرة من الأدهان الطيبة، كماء الورد، وماء القرنفل، وماء زهر النارنج، فهذا كُلُّه طِيب، ولا يدخُلُ فيه الزيتُ، ولا الشيرج، ولا السمن، ولا تُمتع من الادهان بشىء من ذلك. الحكم السابع: وهى ثلاثة أنواع. أحدها: الزينة في بدنها، فيحرم عليها الخضابُ، والنَّقشُ، والتطريفُ، والحُمرة، والاسفيدَاجُ، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم نص على الخِضاب منبهاً به على هذه الأنواع التي هي أكثرُ زينة منه، وأعظمُ فتنة، وأشدُّ مضادة لمقصود الإحداد، ومنها: الكُحل، والنهى عنه ثابت بالنص الصريح الصحيح. ثم قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف: منهم أبو محمد ابن حزم: لا تكتحِلُ ولو ذهبت عيناها لا ليلاً ولا نهاراً، ويُساعد قولَهم، حديثُ أم سلمة المتفق عليه: أن امرأة توفى عنها زوجها، فخافوا على عينها، فأَتَوُا النبى صلى الله عليه وسلم، فاستأذنوه في الكحل، فما أذن فيه، بل قال: (لا) مرتين أو ثلاثاً، ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الإحداد البليغ سنَةً، ويصبِرن على ذلك، أفلا يصبرن أربعة أشهر وعشراً. ولا ريب أن الكحل من أبلغ الزينة، فهو كالطيب أو أشد منه. وقال بعض الشافعية: للسوداء أن تكتحل، وهذا تصرف مُخَالِفٌ للنص والمعنى، وأحكامُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تُفرِّق بين السود والبيض، كما لا تُفرق بين االطِوال والقِصار، ومثلُ هذا القياس بالرأى الفاسد الذي اشتد نكيرُ السلف له وذمُّهم إياه.وأما جمهور العلماء، كمالك، وأحمد، وأبى حنيفة والشافعى، وأصحابهم، فقالوا: إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد تداوياً لا زينة، فلها أن تكتحِلَ به ليلاً وتمسحه نهاراً، وحجتُهم: حديثُ أم سلمة المتقدم رضي اللَّه عنها، فإنها قالت في كحل الجلاء: لا تكتَحِلُ إلا لما لا بُدَّ منه، يَشْتَدُّ عَلَيْكِ فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار. ومن حجتهم: حديث أم سلمة رضى اللَّه عنها الآخر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وقد جعلت عليها صَبراً فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: صبر يا رسول اللَّه، ليس فيه طيب فقال: إنه يُشبُّ الوَجْهَ، فقال: لاَ تجعليه إلا باللَّيْل وَتَنْزِعيه بالنَّهَار)، وهما حديثٌ واحد، فَّرقه الرواةُ، وأدخل مالك هذا القدر منه في (موطئه) بلاغاً، وذكر أبو عمر في (التَمهيد) له طرقاً يَشدُّ بعضُها بعضاً، ويكفى احتجاجُ مالك به، وأدخله أهلُ السنن في كتبهم، واحتج به الأئمةُ، وأقلُّ درجاته أن يكون حسناً، ولكن حديثُها لهذا مخالف في الظاهر لحديثها المسند المتفق عليه، فإنه يَدُلُّ على أن المتوفى عنها لا تكتحِلُ بحال، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأذن للمشتكية عينها في الكحل لا ليلاً ولا نهاراً، ولا مِن ضرورة ولا غيرِها، وقال: (لا)، مرتين أو ثلاثاً، ولم يقل: إلا أن تضطر. وقد ذكر مالك عن نافع، عن صفية ابنة عبيد، أنها اشتكت عينها وهى حَادٌّ على زوجها عبد اللَّه بن عمر، فلم تكتحِل حتى كادت عيناها تَرْمَصَانِ. قال أبو عمر: وهذا عندى وإن كان ظاهره مخالفاً لحديثها الآخر، لما فيه من إباحته بالليل. وقوله في الحديث الآخر: (لا)، مرتين أو ثلاثاً على الإطلاق، أن ترتِيبَ الحديثَين واللَّه أعلم أن الشكاة التي قال فيها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا، لم تبلغ واللَّه أعلم مِنها مبلغاً لا بُدَّ لها فيه مِن الكحل، فلذلك نهاها، ولو كانت محتاجة مضطرة تخافُ ذهابَ بصرها، لأباح لها ذلك، كما فعل بالتى قال لها: (اجعليه باللَّيْلِ وامْسَحيهِ بالنَّهارِ)، والنظر يشهد لهذا التأويل، لأن الضرورات المحظورات إلى حال المباح في الأصول، ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة رضى اللَّه عنها تفسيراً للحديث المسند في الكحل، لأن أم سلمة رضى اللَّه عنها روته، وما كانت لِتخالِفَه إذا صحَّ عندها، وهى أعلمُ بتأويله ومخرجه، والنظرُ يشهد لذلك، لأن المضطر إلى شىء لا يُحكم له بحكم المرفَّه المتزين بالزينة، وليس الدواء والتداوى من الزينة في شىء، وإنما نُهيت الحادة عن الزينة لا عن التداوى، وأمُّ سلمةَ رضى اللَّه عنها أعلم بما روت مع صحته في النظر، وعليه أهلُ الفقه، وبه قال مالك والشافعى، وأكثر الفقهاء. وقد ذكر مالك رحمه اللَّه في (موطئه): أنه بلغه عن سالم بن عبد اللَّه، وسليمان بن يسار، أنهما كانا يقولان في المرأة يُتوفى عنها زوجُها: إنها إذا خشيت على بصرها مِن رمدٍ بعينيها، أو شكوى أصابتها، أنها تكتحل وتتداوى بالكحل وإن كان فيه طيب. قال أبو عمر: لأن القصد إلى التداوى لا إلى التطيب، والأعمال بالنيات. وقال الشافعى رحمه اللَّه، الصبر يصفر، فيكون زينة، وليس بطيب، وهو كحل الجلاء، فأذنت أم سلمة رضى اللَّه عنها للمرأة بالليل حيث لا ترى، وتمسحه بالنهار حيث يرى، وكذلك ما أشبهه. وقال أبو محمد بن قدامة في (المغنى): وإنما تُمنع الحادةُ مِن الكُحل بالإثمد، لأنه تحصل به الزينة، فأما الكُحل بالتوتيا والعنزَروت ونحوهما، فلا بأس به، لأنه لا زينةَ فيه، بل يُقَبِّح العين ويزيدها مَرَهاً. قال: ولا تُمنع مِن جعل الصَّبِرِ على غير وجهها من بدنها، لأنه إنما مُنِعَ منه في الوجه، لأنه يُصفره، فيشبه الخضاب، فلهذا قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: إنه يُشب الوجه. قال: ولا تُمنع مِن تقليم الأظفار، ونتفِ الإبط، وحلقِ الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسِّدر، والامتشاط به، لحديثِ أم سلمة رضى اللَّه عنها، ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب، وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى في (مسائله) قيل لأبى عبد اللَّه: المتوفى عنها تكتحِلُ بالإثمد؟ قال: لا، ولكن إن أرادت، اكتحلت بالصَّبِر إذا خافت على عينها واشتكت شكوى شديدة. النوع الثانى: زينةُ الثياب، فيحرُم عليها ما نهاها عنه النبى صلى الله عليه وسلم، وما هو أولى بالمنع منه، وما هو مثلُه. وقد صح عنه أنه قال: (ولاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً). وهذا يعم المعصفر والمزعفر، وسائرَ المصبوغ بالأحمر والأصفر، والأخضر، والأزرق الصافى، وكل ما يُصبغ للتحسين والتزيين. وفى اللفظ الآخر: (وَلاَ تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيابِ،ولا المُمَشَّق). وههنا نوعان آخران. أحدهما: مأذون فيه، وهو ما نُسج من الثياب على وجهه ولم يدخل فيه صبغ من خز، أو قز، أو قطن، أو كتان، أو صوف، أو وبر، أو شعر، أو صبغ غزله ونسج مع غيره كالبروُد. والثانى: ما لا يُراد بصبغه الزينة مثل السواد، وما صُبغ لتقبيح، أو ليستر الوسخ، فهذا لا يمنع منه. قال الشافعى رحمه اللَّه: في الثياب زينتان. إحداهما: جمال الثياب على اللابسين، والسترة للعورة. فالثيابُ زينة لمن يلبسُها، وإنما نُهيت الحادةُ عن زينة بدنها، ولم تُنه عن ستر عورتها، فلا بأس أن تلبس كُلَّ ثوبٍ من البياض، لأن البياض ليس بمزين، وكذلك الصوفُ والوبر، وكل ما يُنسج على وجهه ولم يدخل عليه صِبغ من خز أو غيره، وكذلك كُلُّ صبغ لم يرد تزيين الثوب مثل السواد، وما صبغ لتقبيحه، أو لنفى الوسخ عنه، فأما كان مِن زينة، أو وشى في ثوبه أو غيره فلا تلبسه الحادة، وذلك لِكل حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة، مسلمة أو ذمية. انتهى كلامه. قال أبو عمر: وقول الشافعى رحمه اللَّه في هذا الباب نحو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا تلبَسُ ثوب عصب ولا خز وإن لم يكن مصبوغاً إذا أرادت به الزينة، وإن لم تُرد بلبس الثوب المصبوغ الزينة، فلا بأس أن تلبسه. وإذا اشتكت عينُها، اكتحلت بالأسود وغيره، وإن لم تشتكِ عينُها، لم تكتحل. وأما الإمام أحمد رحمه اللَّه، فقال في رواية أبى طالب: ولا تتزين المعتدة، ولا تتطيب بشىء من الطيب، ولا تكتحِلُ بكُحل زِينة، وتدَّهنُ بدُهن ليس فيه طيب، ولا تُقرِّبُ مسكاً، ولا زعفراناً للطيب، والمطلقة واحدة أو اثنتين تتزيَّن، وتتشوَّفُ لعله أن يُراجعها. وقال أبو داود في مسائله: سمعت أحمد قال: المتوفَّى عنها زوجُها، والمطلقةُ ثلاثاً، والمحرمة يجتنْبنَ الطيبَ والزينة. وقال حرب في (مسائله): سألتُ أحمد رحمه اللَّه، قلت: المتوفى عنها زوجها والمطلقة، هل تلبسان البُرد ليس بحرير؟ فقال: لا تتطيب المتوفى عنها، ولا تتزين بزينة، وشدد في الطيب، إلا أن يكون قليلاً عند طُهرها. ثم قال: وشبهت المُطَلَّقَة ثلاثاً بالمتوفَّى عنها، لأنه ليس لزوجها عليها رجعة، ثم ساق حرب بإسناده إلى أمِّ سلمة قال: المتوفَّى عنها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا تختضب، ولا تكتحِلُ، ولا تتطيب، ولا تمتشط بطيب. وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى في (مسائله): سألتُ أبا عبد اللَّه عن المرأة تنتقِبُ في عدتها، أو تدهن في عدتها؟ قال: لا بأس به، وإنما كُرِهَ للمتوفَّى عنها زوجُها أن تتزين. وقال أبو عبد اللَّه: كل دُهن فيه طيب، فلا تدهِنُ به، فقد دار كلام الإمام أحمد، والشافعى، وأبى حنيفة رحمهم اللَّه على أن الممنوع منه مِن الثياب ما كان من لباس الزينة من أى نوع كان، وهذا هو الصوابُ قطعاً، فإن المعنى الذي مُنعت مِن المعصفر والممشَّق لأجله مفهوم، والنبى صلى الله عليه وسلم خصه بالذكر مع المصبوغ تنبيهاً على ما هو مثلُه، وأولى بالمنع، فإذا كان الأبيضُ والبرود المحبرَّة الرفيعة الغالية الأثمان مما يُراد للزينة لارتفاعِهما وتناهى جودتهما، كان أولى بالمنعِ مِن الثوب المصبوغ. وكل من عقل عن اللَّه ورسوله لم يَستَرِبْ في ذلك، لا كما قال أبو محمد ابن حزم: إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط، ومباحٌ لها أن تلبس بعدُ ما شاءت من حرير أبيض وأصفر مِن لونه الذي لم يُصبغ، وصوف البحر الذي هو لونُه، وغير ذلك. ومباح لها أن تلبسَ المنسوجَ بالذهب والحُلى كله مِن الذهب والفضة، والجوهر والياقوت، والزمرد وغير ذلك، فهى خمستةُ أشياء تجتنبها فقط، وهى: الكحل كله لضرورة أو لغير ضرورة، ولو ذهبت عيناها لا ليلاً ولا نهاراً، وتجتنب فرضاً كُلَّ ثوب مصبوغ مما يُلبس في الرأس والجسد، أو على شىء منه، سواء في ذلك السواد والخضرة، والحُمرة والصفرة، وغير ذلك، إلا العصب وحدَه وهى ثياب موشَّاة تُعمل في اليمن، فهو مباح لها. وتجتنب أيضاً: فرضاً الخضابَ كُلَّه جملة، وتجتنب الامتشاط حاشا التسريح بالمشط فقط، فهو حلالٌ لها، وتجتنب أيضاً: فرضاً الطيبَ كُلَّه، ولا تقرب شيئاً حاشا شيئاً من قسط أو أظفار عند طهرها فقط، فهذه الخمسة التي ذكرها حكينا كلامه فيها بنصه. وليس بعجيبٍ منه تحريمُ لبس ثوب أسودَ عليها ليس من الزينة في شىء، وإباحةُ ثوب يتقد ذهباً ولؤلؤاً وجوهراً، ولا تحريمُ المصبوغ الغليظ لحمل الوسخ، وإباحة الحرير الذي يأخذ بالعيون حسنُه وبهاؤه ورُواؤه، وإنما العجب منه أن يقولَ: هذا دينُ اللَّه في نفس الأمر، وأنه لا يَحلُّ لأحد خلافه. وأعجبُ من هذا إقدامه على خلافِ الحديث الصحيح في نهيه صلى الله عليه وسلم لها عن لباس الحُلِى. وأعجبُ من هذا، أنه ذكر الخبرَ بذلك، ثم قال: ولا يَصِحُّ ذلك، لأنه من رواية إبراهيم بن طهمان، وهو ضعيف، ولو صح لقلنا به. فَلِلَّه ما لقى إبراهيم بن طهمان من أبى محمد ابن حزم، وهو مِن الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمةُ الستة على إخراج حديثه، واتفق أصحابُ الصحيح، وفيهم الشيخان على الاحتجاج بحديثه، وشهد له الأئمةُ بالثقة والصدق، ولم يُحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش، ولا يُحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليلُ حديث رواه، ولا تضعيفُه به. وقرىء على شيخنا أبى الحجاج الحافظ في (التهذيب) وأنا أسمع: قال: إبراهيم بن طهمان بن سعيد الخراسانى أبو سعيد الهروى ولد بهراة، وسكن نيسابور وقَدِمَ بغداد، وحدث بها، ثم سكن بمكة حتى مات بها، ثم ذكر عمن روى، ومن روى عنه، ثم قال: قال نوح بن عمرو بن المروزى، عن سفيان بن عبد الملك، عن ابن المبارك: صحيحُ الحديث، وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، وأبى حاتم: ثقة، وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن معين: لا بأس به، وكذلك قال العِجلى، وقال أبو حاتم: صدوقٌ حسن الحديث، وقال عثمان بن سعيد الدارمى: كان ثقة في الحديث، ثم لم تزل الأئمة يشتهون حديثه، ويرغبون فيه، ويوثقونه. وقال أبو داود: ثقة وقال إسحاق بن راهويه: كان صحيحَ الحديث، حسَ الرواية، كثيرَ السماع، ما كان بخُراسان أكثر حدثاً منه، وهو ثقة، وروى له الجماعة. وقال يحيى بن أكثم القاضى: كان مِن أنبل مَنْ حدَّث بخُراسان والعراق والحجاز، وأوثقهم، وأوسعهم علماً. وقال المسعودى: سمعت مالك ابن سليمان يقول: مات إبراهيم بنُ طهمان سنة ثمان وستين ومائة بمكة ولم يخلف مثله. وقد أفتى الصحابةُ رضى اللَّه عنهم بما هو مطابق لهذه النصوص، وكاشف عن معناها ومقصودها، فصَّح عن ابن عمر أنه قال: لا تكتحِلُ، ولا تتطيب، ولا تَخْتَضِب، ولا تلبَسُ المعصفر، ولا ثوباً مصبوغاً، ولا برداً، ولا تتزين بِحلى، شيئاً تُريد به الزينة، ولا تكتحِلُ بكُحل تُريد به الزينة، إلا أن تشتكى عينها. وصحَّ عنه من طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثورى، عن عُبيد اللَّه ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: ولا تمسُّ عنها طيباً، ولا تختضِبُ ولا تكتحل، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب تتجلببُ به. وصح عن أمِّ عطية: لا تلبسُ الثيابَ المصبغة إلا العَصْبَ، ولا تمس طيباً إلا أدنى الطيب بالقُسط والأظفار، ولا تكتحِلُ بكحل زينة. وصح عن ابن عباس رضى اللَّه عنه أنه قال: تجتنِبُ الطيبَ والزينة. وصح عن أمِّ سلمة رضى اللَّه عنها لا تلبَسُ مِن الثياب المصبغة شيئاً، ولا تكتحِلُ، ولا تلبس حُلياً، ولا تختضب، ولا تتطيَّبُ. وقالت عائشة أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها: لا تلبَسُ معصفراً، ولا تُقرِّبُ طيباً، ولا تكتحل، ولا تلبس حُلياً، وتلبس إن شاءت ثيابَ العَصْبِ. وأما النِّقابُ، فقال الخِرقى في (مختصره): وتجتنِبُ الزوجةُ المتوفَّى عنها زوجها الطيبَ، والزينة، والبيتوتة في غير منزلها، والكُحلَ بالإثمد، والنِّقاب. ولم أجدْ بهذا نصاً عن أحمد.وقد قال إسحاق ابن هانىء في (مسائله): سألت أبا عبد اللَّه عن المرأة تنتقِبُ في عِدتها، أو تدهِن في عدتها؟ قال: لا بأس به، وإنما كُرِهَ للمتوفى عنها زوجها أن تتزيَّن. ولكن قد قال أبو داود في (مسائله) عن المتوفى عنها زوجها، والمطلقة ثلاثاً، والمحرمة: تجتنبن الطيبَ والزينة. فجعل المتوفى عنها بمنزلة المحرمة فيما تجتنبه، فظاهر هذا أنها تجتنب النقاب، فلعل أبا القاسم أخذ مِن نصه هذا واللَّه أعلم وبهذا علله أبو محمد في (المغنى) فقال: فصل الثالث فيما تجتنبه الحادة النقاب، وما في معناه مثل البرقع ونحوه، لأن المعتدة مشبهة بالمُحْرِمَة، والمحرمة تمتنع من ذلك. وإذا احتاجت إلى ستر وجهها،سدلت عليه كما تفعل المحرمة. فإن قيل: فما تقولون في الثوب إذا صُبغَ غزلُه ثم نسج، هل لها لبسه؟ قيل: فيه وجهان، وهما احتمالات في المغنى أحدهما يحرم لبسه، لأنه أحسن وأرفع ولأنه مصبوغٌ للحسن، فأشبه ما صُبغَ بعد نسجه، والثانى: لا يحرم لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث أمِّ سلمة رضي اللَّه عنها: (إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ)، وهو ما صُبغَ غزلُه قبل نسجه، ذكره القاضى، قال الشيخ: والأول أصح، وأما العَصَب: فالصحيح: أنه نبتٌ تصبغ به الثياب، قال السهيلى: الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به، فرخص النبى صلى الله عليه وسلم للحادَّةِ في لبس ما يُصبغ بالعَصب، لأنه في معنى ما يصبغ لغير تحسين، كالأحمر والأصفر، فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه، كحصولها بما صُبغ بعد نسجه. واللَّه أعلم. ثبت في صحيح مسلم: من حديث أبى سعيد الخُدرى رضى اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومَ حُنين بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقى عدواً، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابُوا سبايا، فكأن ناساً مِن أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تحرَّجوا من غِشيانهن مِن أجلِ أزواجهن من المشركين، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ في ذلك: وفى الترمذي: من حديث عِرباض بن سارية، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم حرَّم وَطْءَ السَّبايَا حَتَّى يَضَعْنَ مَا في بُطُونِهِنَّ. وفى (المسند)، وسنن أبى داود: من حديث أبى سعيد الخُدري رضى اللَّه عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أَوطاس: (لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً). وفى الترمذى: من حديث رُويفع بن ثابت رضى اللَّه عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخر، فَلاَ يَسْقى مَاءَهُ وَلَد غَيْرِه). قال الترمذى: حديث حسن. ولأبى داود، من حديثه أيضاً: (لاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرئَها). ولأحمد: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَنْكِحَنَّ ثَيِّباً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ). وذكر البخارى في (صحيحه): قال ابن عمر: إذا وُهِبَتِ الوَليدةُ التي تُوطَأ، أو بيعَت، أو عَتقت، فلُتستبرأ بحيضة، ولا تُستبرأ العذراءُ. وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن طاووس: أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منادياً في بعض مغازيه: (لاَ يَقَعَنَّ رَجُلٌ عَلى حَامِلٍ، وَلاَ حَائِلِ حَتَّى تَحِيضَ). وذكر عن سفيان الثورى: عن زكريا، عن الشعبى، قال: أصاب المسلمون سبايا يومَ أوطاس، فأمرهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يقعوا على حامِلٍ حتى تَضَعَ، ولا على غير حامل حتَّى تحيض. فتضمنت هذه السنن أحكاماً عديدة: أحدها: أنه لا يجوز وطءُ المسبية حتى يُعلم براءةُ رحمها، فإن كانت حاملاً فبوضع حملها، وإن كانت حائلاً فبأن تحيضَ حيضة. فإن لم تكن مِن ذوات الحيض فلا نصَّ فيها، واختُلِفَ فيها وفى البِكر، وفى التي يُعلم براءةُ رحمها بأن حاضت عند البائع، ثم باعها عقيبَ الحيض ولم يطأها، ولم يُخرجها عن ملكه، أو كانت عند امرأةٍ وهى مصونة، فانتقلت عنها إلى رجل، فأوجب الشافعىُّ وأبو حنيفة وأحمد الاستبراءَ في ذلك كله، أخذاً بعموم الأحاديث، واعتباراً بالعِدة حيث تجب مع العلم ببراءة الرحم، واحتجاجاً بآثار الصحابة، كما ذكر عبد الرزاق: حدثنا ابنُ جريج، قال: قال عطاء: تداولَ ثلاثةٌ من التجار جارِيةً، فولَدت، فدعا عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه القافة، فألحقوا ولدها بأحدهم، ثم قال عمر رضى اللَّه عنه: من ابتاع جارية قد بلغت المحيضَ، فليتربَّصنْ بها حتى تحيض، فإن كانت لم تحض فليتربَّصنْ بها خمساً وأربعين ليلة. قالوا: وقد أوجب اللَّه العدة على من يئست من المحيض، وعلى من لم تبلغ سن المحيض، وجعلها ثلاثة أشهر، والاستبراءُ عدة الأمة، فيجبُ على الآيسة، ومن لم تبلغ سنَ المحيض. وقال آخرون: المقصودُ من الاستبراء العلمُ ببراءة الرحم، فحيث تيقن المالكُ براءة رحم الأمة، فله وطؤُها ولا استبراء عليه، كما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه عنه قال: إذا كانت الأمة عذراءَ لم يستبرئها إن شاء، وذكره البخارى في (صحيحه) عنه. وذكر حماد بن سلمة، حدثنا على بن زيد، عن أيوب بن عبد اللَّه اللخمى، عن ابن عمر قال: وقعت في سهمى جاريةٌ يومَ جَلُولاَء، كأنَّ عُنُقَها إبريقُ فِضَّة، قال ابن عمر: فما ملكتُ نفسى أن جعلتُ أقبلها والناسُ ينظرون. ومذهب مالك إلى هذا يرجع، وهاك قاعدته وفروعها: قال أبو عبد اللَّه المازَرى وقد عقد قاعدة لباب الاستبراء فنذكرها بلفظها. والقول الجامع في ذلك: أن كل أَمَةٍ أُمِنَ عليها الحملُ، فلا يلزم فيها الاستبراءُ، وكُلُّ مَنْ غلب على الظن كونها حاملاً، أو شك في حملها، أو تردد فيه، فالاستبراءُ لازم فيها، وكل من غلَّب الظن ببراءة رحمها، لكنه مع الظن الغالب يجوز حصولُه، فإن المذهب على قولين في ثبوتِ الاستبراء وسقوطِه. ثم خرج على ذلك الفروعَ المختلفة فيها، كاستبراءِ الصغيرة التي تُطيق الوطْء، والآيسَة، وفيه روايتان عن مالك، قال صاحب (الجواهر): ويجبُ في الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن الحمل، كبنت ثلاث عشرة، أو أربع عشرة، وفى إيجاب الاستبراء إذا كانت ممن تُطيق الوطءَ، ولا يَحْمِلُ مثلها كبنت تسع وعشر، روايتان أثبته في رواية ابن القاسم، ونفاه في رواية ابن عبد الحكم، وإن كانت ممن لا يُطبق الوطء، فلا استبراء فيها. قال: ويجب الاستبراء فيمن جاوزت سنَّ الحيض، ولم تبلغ سنَّ الآيسة، مثل ابنة الأربعين والخمسين. وأما التي قعدت عن المحيض، ويئست عنه، فهل يجب فيها الاستبراءُ أو لا يجب؟ روايتان لابن القاسم، وابنِ عبد الحكم. قال المازَرى: ووجهُ الصغيرة التي تُطيق الوطء والآيسة، أنه يُمكن فيهما الحملُ على الندور، أو لِحماية الذريعة، لئلا يدعى في مواضع الإمكان أن لا إمكان. قال: ومِن ذلك استبراءُ الأمة خوفاً أن تكون زنت، وهو المعَّبر عنه بالاستبراء لسوء الظن، وفيه قولان، والنفى لأشهب. قال: ومِن ذلك استبراءُ الأمَةِ الوَخْشِ، فيه قولان، الغالبُ: عَدمُ وطءِ السادات لهن، وإن كان يقع في النادر. ومِن ذلك استبراءُ مَنْ باعها مجبوبٌ، أو امرأة، أو ذو محرم، ففى وجوبه روايتان عن مالك. ومِن ذلك استبراءُ المكاتبة إذا كانت تتصرَّفُ ثم عجزت، فرجعت إلى سيدها، فابنُ القاسم يُثبِتُ الاستبراءَ، وأشهبُ ينفيه. ومن ذلك استبراءُ البِكر، قال أبو الحسن اللخمى: هو مستحب على وجه الاحتياط غيرُ واجب، وقال غيرُه من أصحاب مالك: هو واجب. ومن ذلك إذا استبرأ البائعُ الأمة، وعَلِمَ المشترى أنه قد استبرأها، فإنه يُجزىء استبراءُ البائع عن استبراء المشترى. ومن ذلك إذا أودعه، فحاضت عند المُودَع حيضة، ثم استبرأها لم يحتج إلى استبراءٍ ثانٍ، وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها، وهذا بشرط أن لا تخرُج، ولا يكون سيدُها يدخلُ عليها. ومن ذلك أن يشترِيَها مِن زوجته، أو ولد له صغير في عياله وقد حاضت عند البائع، فابنٌ القاسم يقول: إن كانت لا تخرج، أجزأه ذلك، وأشهبُ يقول: إن كان مع المشترى في دار وهو الذابُّ عنها، والناظرُ في أمرها، أجزأه ذلك، سواء كانت تخرج أو لا تخرج. ومن ذلك إن كان سيدُ الأمةِ غائباً، فحين قدم، اشتراها منه رجل قبل أن تخرج، أو خرجت وهى حائض، فاشتراها قبل أن تطهر، فلا استبراء عليه. ومِنْ ذلك إذا بيعت وهى حائض في أوَّلِ حيضها، فالمشهورُ من مذهبه أن ذلك يكون استبراءً لها لا يحتاجُ إلى حيضة مستأنفَة. ومن ذلك، الشريكُ يشترى نصيبَ شريكه مِن الجارية وهى تحتَ يد المشترى منهما، وقد حاضت في يده، فلا استبراءَ عليه. وهذه الفروعُ كلُّها مِن مذهبه تُنبيك عن مأخذه في الاستبراء، وأنه إنما يجب حيث لا يعلم ولا يُظن براءة الرحم، فإن عُلمت أو ظُنت، فَلاَ استبراء، وقد قال أبو العباس ابن سريج وأبو العباس ابن تيمية: إنه لا يجب استبراءُ البكر، كما صح عن ابن عمر رضى اللَّه عنها، وبقولهم نقول، وليس عن النبى صلى الله عليه وسلم نص عام في وجوب استبراء كل من تجدَّد له عليها ملك على أى حالة كانت، وإنما نهى عن وطءِ السبايا حتى تضعَ حواملُهن، وتحيض حوائلهن. فإن قيل: فعمومُه يقتضى تحريم وطء أبكارهن قبل الاستبراء، كما يمتنع وطء الثيب؟. قيل: نعم، وغايتُه أنه عموم أو إطلاق ظهر القصدُ منه، فيُخص أو يُقيد عند انتفاء موجبِ الاستبراء، ويخص أيضاً بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث رويفع: (مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّه وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَنْكِحْ ثَيِّباً مِنَ السَّبايَا حَتَّى تحِيضَ). ويخص أيضاً بمذهب الصحابى، ولا يعلم له مخالف. وفى صحيح البخارى: من حديث بريدة، قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علياً رضى اللَّه عنه إلى خالد يعنى باليمن لِيقبض الخُمُسَ، فاصطفى علىٌ منها سَبِيَّةً، فأصبح وقد اغتسل، فقلتُ لخالد: أما ترى إلى هذا؟ وفى رواية: فقال خالد لبُريدة: ألا ترى ما صَنَعَ هذا؟ قال بريدة: وكُنْتُ أُبْغِضُ علياً رضى اللَّه عنه، فلما قدمنا إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، ذكرتُ ذلك له، فقال: (يا بُرَيْدَةَ أَتُبْغِضُ عَلِيٍّا)؟ قلت: نعم، قال: (لاَ تُبْغِضْهُ فَإنَّ له في الخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ). فهذه الجاريةُ إما أن تكون بكراً فلم ير علي وجوب استبرائها، وإما أن تكون في آخر حيضها، فاكتفى بالحيضة قبل تملُّكه لها. وبكل حال، فلا بد أن يكون تحقق براءَة رحمها بحيث أغناه عن الاستبراء. فإذا تَأملتَ قولَ النبى صلى الله عليه وسلم حقَّ التأمل، وجدت قوله: (وَلاَ تُوْطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ)، ظهر لك منه أن المراد بغير ذاتِ الحمل مَنْ يجوزُ أن تكون حاملاً، وأَن لا تكون، فيُمسك عن وطئها مخافة الحمل، لأنه لا علم له بما اشتمل عليه رحمها، وهذا قاله في المسبيات لعدم علم السابى بحالهنَّ. وعلى هذا فَكُلُّ من ملك أمة لا يعلم حالها قبل الملك، هل اشتمل رحمها على حمل أم لا؟ لم يطأها حتى يستبرئها بحيضة، هذا أمر معقول، وليس بتعبد محض لا معنى له، فلا معنى لاستبراء العذراء والصغيرةِ التي لا يَحْمِلُ مثلُها، والتي اشتراها من امرأته وهى في بيته لا تخرُج أصلاً، ونحوها ممن يُعلم براءة رحمها، فكذلك إذا زنتِ المرأة وأرادت أن تتزوج، استبرأها بحيضة، ثم تزوجت، وكذلك إذا زنت وهى متزوجة، أمسك عنها زوجها حتى تحيض حيضة. وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدُها، اعتدت بحيضة. قال عبدُ اللَّه بن أحمد: سألت أبى، كم عدة أم الولد إذا توفى عنها مولاها أو أعتقها؟ قال: عِدتها حيضة، وإنما هي أمة في كل أحوالها، إن جنت، فعلى سيدها قيمتها، وإن جُني عليها، فعلى الجانى ما نقص مِن قيمتها. وإن ماتت، فما تركت مِن شىء فلسيدها، وإن أصابت حداً، فحدُّ أمة، وإن زوجها سيدها، فما ولدت، فهم بمنزلتها يُعتقون بعتقها، ويُرقون برقها. وقد اختلف الناس في عِدتها، فقال بعضُ الناس: أربعة أشهر وعشراً، فهذه عِدة الحرة، وهذه عِدة أمة خرجت مِن الرق إلى الحرية، فيلزم من قال: أربعة أشهر وعشراً أن يُورِّثها، وأن يجعل حُكمها حكم الحرة، لأنه قد أقامها في العِدة مقامَ الحرة. وقال بعضُ الناس: عدتها ثلاث حيض، وهذا قول ليس له وجه، إنما تعتد ثلاثَ حيض المطلقةُ، وليست هي بمطلقة ولا حُرة، وإنما ذكر اللَّه العدة فقال: وكذلك قال في رواية صالح: تعتد أمُّ الولد إذا تُوفى عنها مولاها، أو أعتقها حيضة، وإنما هي أمة في كل أحوالها. وقال في رواية محمد بن العباس: عِدة أمِّ الولد أربعة أشهر وعشر إذا توفى عنها سيدها. وقال الشيخ في (المغنى): وحكي أبو الخطاب رواية ثالثة عن أحمد: أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام.قال: ولم أجِده هذه الرواية عن أحمد رحمه اللَّه في (الجامع)، ولا أظنها صحيحة عن أحمد رحمه اللَّه، ورُوى ذلك عن عطاء وطاووس وقتادة، لأنها حين الموت أمة، فكانت عِدتها عدةَ الأمة، كما لو مات رجل عن زوجته الأمة، فعتقت بعد موته، فليست هذه رواية إسحاق بن منصور عن أحمد. قال أبو بكر عبد العزيز في (زاد المسافر): باب القول في عدة أم الولد من الطلاق والوفاة. قال أبو عبد اللَّه في رواية ابن القاسم: إذا مات السيد وهى عند زوج، فلا عِدة عليها، كيف تعتد وهى مع زوجها؟ وقال في رواية مهنا: إذا أعتق أمَّ الولد، فلا يتزوج أختها حتى تخرج من عدتها. وقال في رواية إسحاق ابن منصور: وعِدة أم الولد عدة الأمة في الوفاة والطلاق والفرقة، انتهى كلامه.وحُجة من قال: عدتها أربعة أشهر وعشر، ما رواه أبو داود عن عمرو بن العاص، أنه قال: لا تُفْسِدُوا عَلَيْنَا سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر: وهذا قول السَّعيدين، ومحمد بن سيرين، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وخِلاس بن عمرو، والزهرى، والأوزاعى، وإسحاق. قالوا: لأنها حرة تعتد للوفاة، فكانت عِدتُها أربعة أشهر وعشراً، كالزوجة الحرة. وقال عطاء، والنخعى، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: تعتدُّ بثلاثِ حيض، وحُكىَ عَن على، وابن مسعود، قالوا: لأنها لا بد لها مِن عدة، وليست زوجة، فتدخل في آية الأزواج المتوفَّى عنهن، ولا أمة، فتدخُلُ في نصوص استبراء الإمَاء بحيضة، فهى أشبه شىء بالمطلقة، فتعتد بثلاثة أقراء. والصوابُ من هذه الأقوال: أنها تُستَبرأ بحيضة، وهو قولُ عثمان بن عفان، وعائشة، وعبد اللَّه بن عمر، والحسن، والشعبى، والقاسم ابن محمد، وأبى قِلابة، ومكحول، ومالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل في أشهر الروايات عنه، وهو قول أبى عبيد، وأبى ثور، وابن المنذر، فإن هذا إنما هو لمجرد الاستبراء لزوال الملك عن الرقية، فكان حيضة واحدة في حق من تحيض، كسائر استبراءات المعتقات، والمملوكات، والمسبيات. وأما حديث عمرو بن العاص، فقال ابن المنذر: ضعف أحمد وأبو عُبيد حديث عمرو بن العاص. وقال محمد بن موسى: سألت أبا عبد اللَّه عن حديث عمرو بن العاص، فقال: لا يصح. وقال الميمونى: رأيت أبا عبد اللَّه يعجَبُ مِن حديث عمرو بن العاص هذا، ثم قال: أين سنةُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشراً إنما هي عدة الحرة من النكاح، وإنما هذه أمة خرجت من الرِّق إلى الحرية، ويلزم من قال بهذا أن يُورثها، وليس لقول من قال: تعتد ثلاثَ حيض وجه، إنما تعتد بذلك المطلقة، انتهى كلامه. وقال المنذرى: في إسناد حديث عمرو، مطرُ بن طهمان أبو رجاء الوراق، وقد ضعفه غير واحد، وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ في كتاب (التهذيب) قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق. فقال: كان يحيى بن سعيد يُضعف حديثه عن عطاء، وقال عبد اللَّه ابن أحمد بن حنبل: سألتُ أبى عن مطر الوراق، قال: كان يحيى بن سعيد يُشبه حديث مطر الوراق بابن أبى ليلى في سوء الحفظ، قال عبد اللَّه: فسألت أبى عنه؟ فقال: ما أقربَه مِن ابن أبى ليلى في عطاء خاصة، وقال: مطر في عطاء: ضعيف الحديث، قال عبد اللَّه: قلت ليحيى بن معين: مطر الوراق؟ فقال: ضعيف في حديث عطاء بن أبى رباح، وقال النسائى: ليس بالقوى. وبعد، فهو ثقة، قال أبو حاتم الرازى: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، واحتج به مسلم، فلا وجه لضعف الحديث به. وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص رضى اللَّه عنه، ولم يسمع منه، قاله الدارقطنى، وله عِلة أخرى، وهى أنه موقوف لم يقل: لا تُلبسوا علينا سنة نبينا. قال الدارقطنى: والصوابُ: لا تُلبِّسوا علينا ديننا. موقوف. وله علة أخرى، وهى اضطرابُ الحديث، واختلافه عن عمرو على ثلاثة أوجه. أحدها: هذا. والثانى: عدة أم الولد عدة الحرة. والثالث: عدتها إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا، فإذا أعتقت، فعدتها ثلاث حيض، والأقاويل الثلاثة عنه ذكرها البيهقى. قال الإمام أحمد: هذا حديث منكر حكاه البيهقى عنه، وقد روى خِلاس، عن على مثل رواية قبيصة عن عمرو، أن عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر، ولكن خِلاس بن عمرو قد تُكُلِّم في حديثه، فقال أيوب: لا يُروى عنه، فإنه صَحَفى، وكان مغيرة لا يُعْبَأُ بحديثه. وقال أحمد: روايته عن على يقال: إنه كتاب، وقال البيهقى: روايات خِلاس عن على ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، فقال: هي من صحيفة. ومع ذلك فقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر في أم الولد يُتوفى عنها سيدها، قال: تعتد بحيضة. فإن ثبت عن على وعمرو ما رُوى عنهما، فهى مسألة نزاع بين الصحابة، والدليلُ هو الحاكم، وليس مع مَنْ جعلها أربعةَ أشهر وعشراً إلا التعلقُ بعموم المعنى، إذ لم يكن معهم لفظ عام، ولكن شرطُ عموم المعنى تساوى الأفراد في المعنى الذي ثبت الحكم لأجله، فما لم يُعلم ذلك لا يتحقَّقُ الإِلحاق، والذين ألحقوا أمَّ الولد بالزوجة رأوا أن الشَّبهَ الذي بين أم الولد وبينَ الزوجة أقوى من الشبه الذي بينها وبينَ الأمة من جهة أنها بالموت صارت حرة، فلزمتها العِدة مع حُريتها، بخلاف الأمة، ولأن المعنى الذي جُعِلَتْ له عِدة الزوجة أربعة أشهر وعشراً، موجودٌ في أمِّ الولد، وهو أدنى الأوقات الذي يُتيقن فيها خلقُ الولد، وهذا لا يفترق الحالُ فيه بَينَ الزوجة وأم الولد والشريعةُ لا تُفرق بين متماثلين، ومنازعوهم يقولون: أمُّ الولد أحكامُها أحكام الإماء، لا أحكامُ الزوجات، ولهذا لم تدخل في قوله: الحكم الثانى: أنه لا يحصُل الاستبراءُ بطُهر البتة، بل لا بُدَّ مِن حيضة، وهذا قولُ الجمهور، وهو الصوابُ، وقال أصحابُ مالك، والشافعى في قول له: يحصلُ بطهر كامل، ومتى طعنت في الحيضة، تم استبراؤُها بناء على قولهما: إن الأقراء: الأطهار، ولكن يَرُدُّ هذا، قول رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُوطأ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، ولاَ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرأَ بِحَيْضَةٍ). وقال رُويفع بن ثابت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَطَأْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرِئها بِحَيضَة) رواه الإمام أحمد وعنده فيه ثلاثة ألفاظ: هذا أحدها. الثانى: نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا توطأ الأمة حتى تحيض، وعن الحَبَالى حتى تضعن. الثالث: (مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخرِ فَلاَ يَنْكِحَنَّ ثَيِّباً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ). فعلق الحِلَّ في ذلك كله بالحيض وحده لا بالطهر، فلا يَجوز إلغاء ما اعتبره، واعتبار ما ألغاه، ولا تعويل على ما خالف نصه، وهو مقتضى القياس المحض، فإن الواجبَ هو الاستبراء، والذي يدل على البراءة هو الحيض، فأما الطهر، فلا دِلالة فيه على البراءة، فلا يجوز أن يُعوَّلَ في الاستبراء على ما لا دلالة له فيه عليه دون ما يدل عليه، وبناؤُهم هذا على أن الأقراء هي الأطهار، بناء على الخلاف للخلاف، وليس بحجة ولا شبهة، ثم لم يُمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه، فجعلوا الطهر الذي طلقها فيه قرءاً، ولم يجعلوا طهر المستبرأة التي تجدد عليها الملكُ فيه، أو ماتَ سيدها فيه قرءاً، وحتَّى خالفُوا الحديثَ أيضاً كما تبين، وحتى خالفوا المعنى كما بيناه، ولم يُمكنهم هذا البناء إلا بعد هذه الأنواع الثلاثة من المخالفة، وغاية ما قالوا: أن بعضَ الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة، فيقال لهم: فيكون الاعتماد عليهم حينئذ على بعض الحيضة، وليس ذلك قرءاً عند أحد؟ فإن قالوا: هو اعتماد على بعض حيضة وطهر. قلنا: هذا قول ثالث في مسمى القروء، ولا يعرف، وهو أن تكون حقيقته مركبةً من حيض وطهر. فإن قالوا: بل هو اسم للطهر بشرط الحيض. فإذا انتفى الشرط، انتفى المشروط، قلنا: هذا إنما يمكن لو علق الشارع الاستبراء بقرء، فأما مع تصريحه على التعليق بحيضة، فلا. الحكم الثالث: أنه لا يحصُل ببعض حيضة في يدِ المشترى اكتفاء بها. قال صاحب (الجواهر): فإن بِيعت الأمة في آخرِ أيام حيضها، لم يكن ما بقَى مِن أيام حيضها استبراءً لها مِن غير خلاف، وإن بِيعَت وهى في أول حيضتها، فالمشهور من المذهب أن ذلك يكون استبراءً لها. وقد احتج من نازع مالكاً بهذا الحديث، فإنه علق الحل بحيضة، فلا بُدَّ من تمامها، ولا دليل فيه على بطلان قوله، فإنه لا بُدَّ من الحيضة بالاتفاق، ولكن النزاع في أمر آخر، وهو أنه هل يشترط أن يكون جميع الحيضة وهى في ملكه، أو يكفى أن يكونَ معظمُها في مُلكه، فهذا لا ينفيه الحديثُ، ولا يُثبته، ولكن لمنازعيه أن يقولوا: لما اتفقنا على أنه لا يكفى أن يكون بعضُها في ملك المشترى وبعضُها في ملك البائع إذا كان أكثرُها عند البائع، علم أن الحيضة المعتبرة أن تكون، وهى عند المشترى، ولهذا لو حاضت عند البائع، لم يكن ذلك كافياً في الاستبراء. ومن قال بقول مالك، يُجيب عن هذا بأنها إذا حاضت قبل البيع وهى مودَعة عند المشترى، ثم باعها عقيب الحيضة، ولم تخرج من بيته، اكتُفى بتلك الحيضة، ولم يجب على المشترى استبراء ثان، وهذا أحد القولين في مذهب مالك كما تقدم، فهو يجوز أن يكون الاستبراء واقعاً قبل البيع في صور، منها هذه. ومنها إذا وضعت للاستبراء عند ثالث، فاستبرأها، ثم بيعت بعده. قال في (الجواهر): ولا يجزىء الاستبراء قبل البيع إلا في حالات منها أن تكونَ تحتَ يدِه للاستبراء، أو بالوديعة، فتحيضُ عنده، ثم يشتريها حينئذ، أو بعدَ أيام، وهى لا تخرُجُ، ولا يدخل عليها سيدُها. ومنها: أن يشتريها ممن هو ساكن معه من زوجته، أو ولد له صغير في عياله. وقد حاضت، فابن القاسم يقول: إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك. وقال أشهب: إن كانت معه في دار وهو الذاب عنها، والناظرُ في أمرها، فهو استبراء، سواء كانت تخرُج أو لا تخرُج. ومنها: إذا كان سيدُها غائباً، فحين قدم استبرأها قبل أن تخرُج، أو خرجت وهى حائض، فاشتراها منه قبل أن تطهر. ومنها: الشريكُ يشترى نصيب شريكه من الجارية وهى تحتَ يد المشترى منهما وقد حاضت في يده. وقد تقدمت هذه المسائل، فهذه وما في معناها تضمنت الاستبراء قبل البيع، واكتفى به مالك عن استبراء ثان. فإن قيل: فكيف يجتمع قولُه هذا، وقوله: إن الحيضة إذا وجد معظمها عند البائع لم يكن استبراءاً؟ قيل: لا تناقُضَ بينهما، وهذه لها موضع وهذه لها موضع، فكل موضع يحتاج فيه المشترى إلى استبراء مستقل لا يُجزىء إلا حيضة لم يوجد معظمُها عند البائع، وكل موضع لا يحتاج فيه إلى استبراء مستقل لا يحتاج فيه إلى حيضة ولا بعضها، ولا اعتبارَ بالاستبراء قبل البيع، كهذه الصور ونحوها. الحكم الرابع: أنها إذا كانت حاملاً، فاستبراؤها بوضع الحمل، وهذا كما أنه حكم النص، فهو مجمع عليه بين الأمة. الحكم الخامس: أنه لا يجوزُ وطؤها قبلَ وضع حملها، أى حمل كان، سواء كان يلحق بالواطىء، كحمل الزوجة والمملوكة، والموطوءة بشبهة، أو لا يلحق به كحمل الزانية، فلا يحل وطءُ حامل مِن غير الواطىء البتة، كما صرَّح به النص، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلا يَسْقى مَاءَه زَرْعَ غَيْرِهِ) وهذا يَعُمُّ الزرعَ الطيب والخبيث، ولأن صِيانة ماء الواطىء عن الماء الخبيث حتى لا يختلِطَ به أولى مِن صيانته عن الماء الطيب، ولأن حمل الزانى وإن كان لا حُرمة له ولا لمائه، فحملُ هذا الواطىء وماؤه محترم، فلا يجوزُ له خلطه بغيره ولأن هذا مخالف لسنة اللَّه في تمييز الخبيثِ من الطيب، وتخليصه منه، وإلحاق كل قسم بمجانسه ومشاكله. والذي يقضى منه العجب، تجويزُ من جوز من الفقهاء الأربعة العقد على الزانية قبل استبرائها ووطئها عقيبَ العقد، فتكون الليلة عند الزانى وقد علقت منه، والليلة التي تليها فراشاً للزوج. ومن تأمل كمال هذه الشريعة، علم أنها تأبى ذلك كُلَّ الإِباء، وتَمنع منه كُلَّ المنع. ومِن محاسن مذهب الإمام أحمد، أن حرَّم نكاحها بالكُلية حتى تتوب، ويرتفعَ عنها اسمُ الزانية والبغىِّ والفاجرة، فهو رحمه اللَّه لا يجوز أن يكون الرجل زوجَ بغى، ومنازعوه يجوزون ذلك، وهو أسعدُ منهم في هذه المسألة بالأدلة كُلِّها من النصوصِ والآثار، والمعانى والقِياس، والمصلحة والحكمة، وتحريم ما رآه المسلمون قبيحاً. والناس إذا بلغوا في سبِّ الرجل صرَّحوا له بالزاى والقاف، فكيف تجوز الشريعةُ مثل هذا، مع ما فيه من تعرُّضه لإفساد فراشه، وتعليق أولاد عليه من غيره، وتعرضه للاسم المذموم عند جميع الأمم؟ وقياسُ قولِ من جوَّزَ العقد على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملاً، أن لا يوجب استبراء الأمة إذا كانت حاملاً من الزنى، بل يطؤها عقيب ملكها، وهو مخالِفٌ لصريح السنة. فإن أوجب استبراءها، نقض قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها، وإن لم يوجب استبراءها، خالف النصوصَ، ولا ينفعُه الفرق بينهما، بأن الزوجَ لا استبراء عليه، بخلافِ السيد فإن الزوجَ إنما لم يجب عليه الاستبراءُ، لأنه لم يعقد على معتدة، ولا حامل من غيره بخلاف السيد، ثم إن الشارع إنما حرم الوطء، بل العقد في العدة خشيةَ إمكان الحمل، فيكون واطئاً حاملاً من غيره، وساقياً ماءَه لزرع غيره مع احتمال أن لا يكون كذلك، فكيف إذا تحقق حملها. وغاية ما يقال: إن ولد الزانية ليسَ لاحقاً بالواطىء الأول، فإن الولَد لِلفراش، وهذا لا يجوزُ إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره، وإن لم يلحق بالواطىء الأول، فصيانةُ مائه ونسبه عن نسب لا يُلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به. والمقصود: أن الشرعَ حرَّم وطء الأمة الحامل حتى تضع، سواء كان حملُها محرماً أو غير محرم وقد فرَّق النبىُّ صلى الله عليه وسلم بين الرجل والمرأة التي تزوج بها، فوجدها حُبلى، وجلدها الحدَّ، وقضى لها بالصَّداق، وهذا صريحٌ في بطلان العقد على الحامل من الزنى. وصح عنه أنه مر بامرأة مُجِحٍّ على باب فسطاط، فقال: (لَعَلَّ سَيّدَها يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِها)؟ قالوا: نعم.قال: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلعْنه لعناً يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ).فجعل سبب همِّه بلعنته وطأه للأمة الحامل، ولم يستفصِلْ عن حملها، هل هو لاحق بالواطِىء أم غيرُ لاحق به؟ وقوله: (كيف يستخدِمُه وهو لا يحل له) أى: كيف يجعلُه عبداً له يستخدِمُه، وذلك لا يحِل، فإن ماء هذا الواطىء يزيدُ في خلق الحمل، فيكون بعضُه منه، قال الإمام أحمد يزيدُ وطؤه في سمعه وبصره. وقوله: (كيف يورثه وهو لا يَحِلُّ له)، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه: أى: كيف يجعله تركة موروثة عنه، فإنه يعتقده عبده، فيجعله تركةً تُورث عنه، ولا يَحِلُّ له ذلك، لأن ماءه زاد في خلقه، ففيه جزء منه. وقال غيره: المعنى: كيف يورثه على أنه ابنُه، ولا يحِلُّ له ذلك، لأن الحملَ مِن غيره، وهو بوطئه يريد أن يجعله منه، فيورثه ماله، وهذا يردُّه أولُ الحديث، وهو قوله: (كيف يستعبده)؟ أى: كيف يجعله عبده؟ وهذا إنما يدل على المعنى الأول. وعلى القولين، فهو صريح في تحريم وطء الحامل من غيره، سواء كان الحملُ مِن زنى أو من غيره، وأن فاعل ذلك جدير باللعن، بل قد صرَّح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: بأن الرجل إذا ملك زوجتَه الأمة، لم يطأها حتى يستبرئها خشية أن تكون حاملاً منه في صلب النكاح، فيكون على ولده الولاء لموالى أمه بخلاف ما علقت به في ملكه، فإنه لا ولاء عليه، وهذا كله احتياط لولده: هل هو صريحُ الحرية لا ولاء عليه، أو عليه ولاء؟ فكيف إذا كانت حاملاً من غيره؟ الحكم السادس: استنبط من قوله: (ولا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ)، أن الحامل لا تحيض، وأن ما تراه من الدم يكون دمَ فساد بمنزلة الاستحاضة، تصومُ وتُصلى، وتطوف بالبيت، وتقرأ القرآن، وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، فذهب عطاءٌ والحسن، وعكرمة ومكحول، وجابرُ بن زيد، ومحمد بن المنكدر، والشعبى، والنخعى، والحكم، وحماد، والزهرى، وأبو حنيفة وأصحابُه، والأوزاعى، وأبو عُبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، والإمام أحمد في المشهور من مذهبه، والشافعى في أحد قوليه: إلى أنه ليس دمَ حيض. وقال قتادة، وربيعةُ، ومالك، والليث بن سعد، وعبد الرحمن ابن مهدى، وإسحاق بن راهوية: إنه دم حيض، وقد ذكره البيهقى في (سننه) وقال إسحاق ابن راهويه: قال لى أحمد بن حنبل: ما تقول في الحامل ترى الدم؟ فقلت: تصلى، واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضى اللَّه عنها. قال: فقال أحمد بن حنبل، أين أنت عن خبر المدنيين، خبر أمِّ علقمة مولاة عائشة رضى اللَّه عنها؟ فإنه أصح. قال إسحاق: فرجعت إلى قول أحمد، وهو كالتصريح من أحمد، بأن دمَ الحامل دم حيض، وهو الذي فهمه إسحاق عنه، والخبرُ الذي أشار إليه أحمد، وهو ما رويناه من طريق البيهقى، أخبرنا الحاكم، حدثنا أبو بكر بن إسحاق، حدثنا أحمدُ بن إبراهيم، حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن بكير بن عبد اللَّه، عن أمِّ علقمة مولاةِ عائشة، أن عائشة رضى اللَّه عنها سئلت عن الحامل ترى الدم فقالت: لا تُصَلِّى، قال البيهقى: ورويناه عن أنس بن مالك، وروينا عن عمر بن الخطاب، ما يدل على ذلك. وروينا عن عائشة رضى اللَّه عنها، أنها أنشدت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيت أبى كبير الهذلى: ومُبَرَّأً مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حيْضَةٍ وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ قال: وفى هذا دليل على ابتداء الحمل في حال الحيض حيث لم ينكر الشِّعْرَ. قال: وروينا عن مطر، عن عطاء، عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: الحبلى لا تحيضُ، إذا رأت الدم، صلَّت. قال: وكان يحيى القطان ينكر هذه الرواية، ويُضعف رواية ابن أبى ليلى، ومطر عن عطاء. قال: وروى محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء، عن عائشة رضى اللَّه عنها نحو رواية مطر، فإن كانت محفوظة، فيشبه أن تكون عائشة كانت تراها لا تحيض، ثم كانت تراها تحيض، فرجعت إلى ما رواه المدنيون، واللَّه أعلم. قال المانعون مِن كون دم الحامل دمَ حيض: قد قسم النبىُّ صلى الله عليه وسلم الإماء قسمين: حاملاً وجعل عدتها وضع الحمل، وحائلاً فجعل عدتها حَيضة، فكانت الحيضة علماً على براءة رحمها، فلو كان الحيضُ يُجامع الحمل، لما كانت الحيضةُ علماً على عدمه، قالوا: ولذلك جعل عدة المطلقة ثلاثة أقراء، لِيكون دليلاً على عدم حملها، فلو جامع الحملُ الحيضَ، لم يكن دليلاً على عدمه: قالوا: وقد ثبت في (الصحيح)، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه حين طلق ابنُه امرأتَه وهى حائض: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَها بَعْدُ، وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلكَ العِدَّةُ التي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاءُ). ووجه الاستدلال به، أن طلاقَ الحامل ليس ببدعةٍ في زمن الدم وغيره إجماعاً، فلو كانت تحيضُ، لكان طلاقُها فيه، وفى طهرها بعد المسيس بدعة عملاً بعموم الخبر، قالوا: وروى مسلم في (صحيحه) من حديث ابن عمر أيضاً (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ ليُطَلِّقْهَا طَاهِراً أَوْ حَامِلاً)، وهذا يدل على أن ما تراه من الدم لا يكون حيضاً، فإنه جعل الطلاق في وقته نظير الطلاق في وَقت الطهر سواء. فلو كان ما تراه من الدم حيضاً، لكان لها حالان، حال طهر، وحال حيض، ولم يجز طلاقها في حال حيضها، فإنه يكون بدعة قالوا: وقد روى أحمد في (مسنده) من حديث رويفع، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يَحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَسْقى مَاءه زَرْعَ غَيْرِهِ، وَلاَ يقع عَلى أمَةٍ حَتَّى تَحِيضَ أَوْ يَتَبَّينَ حَمْلُها). فجعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم من الحمل. قالوا: وقد رُوِىَ عن على أنه قال: إن اللَّه رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم مما تغيض الأرحام. وقال ابنُ عباس رضى اللَّه عنه: إن اللَّه رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقاً للولد، رواهما أبو حفص بن شاهين. قالُوا: وروى الأثرم، والدارقطنى بإسنادهما، عن عائشة رضى اللَّه عنها في الحامل ترى الدم، فقالت: الحامل لا تحيض، وتغتسل، وتصلى. وقولها: وتغتسل، بطريق الندب لكونها مستحاضة، قالوا: ولا يُعرف عن غيرهم خلافهم، لكن عائشة قد ثبت عنها أنها قالت: الحامل لا تُصلى. وهذا محمول على ما تراه قريباً من الولادة باليومين ونحوهما، وأنه نفاس جمعاً بين قوليها، قالوا: ولأنه دم لا تنقضى به العدة، فلم يكن حيضاً كالاستحاضة. وحديث عائشة رضى اللَّه عنها يدل على أن الحائض قد تحبل، ونحن نقول بذلك، لكنه يقطع حيضَها ويرفعُه. قالوا: ولأن اللَّه سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دم الطمث لبناً غذاءً للولد، فالخارجُ وقت الحمل يكون غيره، فهو دم فساد. قال المحيضون: لا نزاع أن الحاملَ قد ترى الدَم على عادتها، لا سيما في أول حملها، وإنما النزاعُ في حكم هذا الدم، لا في وجوده. وقد كان حيضاً قبل الحمل بالاتفاق، فنحن نستصحِبُ حكمَه حتى يأتىَ ما يرفعه بيقين. قالوا: والحكمُ إذا ثبت في محل، فالأصلُ بقاؤه حتى يأتى ما يرفعه، فالأول استصحابٌ لحكم الإجماع في محل النزاع، والثانى استصحابٌ للحكم الثابت في المحل حتى يتحقق ما يرفعه، والفرقُ بينهما ظاهر. قالوا: وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (إذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ فَإنَّهُ أسْوَدُ يُعْرَفُ). وهذا أسود يُعرف، فكان حيضاً. قالُوا: وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (أَليْسَتْ إحْدَاكُنَّ إذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ ولم تُصَلِّ؟) وحيضُ المرأة خروج دمها في أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعاً، وهذا كذلك لغة والأصل في الأسماء تقريرُها لا تغييرُها. قالوا: ولأن الدم الخارج من الفرج الذي رتَّب الشارع عليه الأحكام قسمان: حيض واستحاضة، ولم يجعل لهما ثالثاً، وهذا ليس بإستحاضة، فإن الاستحاضة الدمُ المطبق، والزائد على أكثر الحيض، أو الخارج عن العادة، وهذا ليس واحداً منها، فبطل أن يكون استحاضة، فهو حيض، قالوا: ولا يمكنكم إثباتُ قسم ثالث في هذا المحل، وجعله دَم فساد، فإن هذا لا يثبتُ إلا بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه، وهو منتف قالوا: وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة إلى عادتها، وقال: (اجْلِسى قَدْرَ الأيَّامِ التي كُنْتِ تَحِيضِينَ). فدل على أن عادة النساء معتبرة في وصف الدمِ وحُكمه، فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة، ووقتها من غير زيادة ولا نقصان ولا انتقال، دلَّت عادتُها على أنه حيض، ووجب تحكيمُ عادتها، وتقديمُها على الفساد الخارج عن العبادة. قالوا: وأعلمُ الأمة بهذه المسألة نساءُ النبى صلى الله عليه وسلم، وأعلمُهن عائشة، وقد صح عنها من رواية أهل المدينة، أنها لا تُصلى، وقد شهد له الإمام أحمد بأنه أصح من الرواية الأخرى عنها، ولذلك رجع إليه إسحاق وأخبر أنه قولُ أحمد بن حنبل، قالوا: ولا تُعرف صحة الآثار بخلاف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة، ولو صحت فهى مسألة نزاع بين الصحابة، ولا دليل يفصل. قالوا: ولأن عدمَ مجامعة الحيضِ للحمل، إما أن يُعلم بالحسِّ أو بالشرع، وكلاهما منتف، أما الأوَّل: فظاهر، وأما الثانى: فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما لا يجتمعان. وأما قولُكم: إنه جعله دليلاً على براءة الرحم من الحمل في العدة والاستبراء. قلنا: جعل دليلاً ظاهراً أو قطعياً، الأول: صحيح. والثانى: باطل، فإنه لو كان دليلاً قطعياً لما تخلف عنه مدلُوله، ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض، وهذا لم يقله أحد، بل أولُ المدةِ مِن حين الوطء، ولو حاضت بعده عدة حيض، فلو وطئها، ثم جاءت بولد لأكثرَ من ستة أشهر من حين الوطء، ولأقل منها من حين انقطاع الحيض، لحقه النسبُ اتفاقاً، فعُلِمَ أنه أمارة ظاهرة، قد يتخلف عنها مدلولُها تخلُّفَ المطر عن الغيم الرطب، وبهذا يخرج الجوابُ عما استدللُتم به من السنة، فإنا بها قائلون، وإلى حكمها صائرون، وهى الحَكَمُ بينَ المتنازعين. والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قسم النساء إلى قسمين: حامل فعِدتُها وضعُ حملها، وحائل فعِدتها بالحيض، ونحن قائلون بموجب هذا غير منازعين فيه، ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصومُ معه وتُصلى؟ هذا أمر آخر لا تَعرُّضَ للحديث به، وهذا يقول القائلون: بأن دمَها دمُ حيض، هذه العبارة بعينها، ولا يُعد هذا تناقضاً ولا خللاً في العبارة. قالوا: وهكذا قولُه في شأن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنه: (مُرْهُ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لِيُطَلِّقْها طَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَمَسَّها)، إنما فيه إباحةُ الطلاق إذا كانت حائلاً بشرطين: الطهر وعدم المسيس، فأين في هذا التعرف لحكم الدم الذي تراه على حملها؟ وقولُكم: إن الحامل لو كانت تحيض، لكان طلاقُها في زمن الدم بدعة، وقد اتفق الناسُ على أن طلاق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم؟ قلنا: إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قسم أحوال المرأة التي يُريد طلاقَها إلى حال حمل، وحالِ خلو عنه، وجوَّز طلاق الحامل مطلقاً من غير استثناء، وأما غيرُ ذات الحمل، فإنما أباح طلاقها بالشرطين المذكورين، وليس في هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد، بل على أن الحامل تخالف غيرها في الطلاق، وأن غيرها إنما تطلق طاهراً غير مصابة، ولا يُشترط في الحامل شىء من هذا، بل تطلُق عقيبَ الإصابة، وتطلُق وإن رأت الدم، فكما لا يحرُمُ طلاقُها عقيبَ إصابتها، لا يحرُم حالَ حيضها وهذا الذي تقتضيه حِكمةُ الشارع في وقت الطلاق إذناً ومنعاً، فإن المرأة متى استبان حملُها كان المطلق على بصيرة من أمره، ولم يعرض له مِن الندم ما يعرِضُ لهن كلهن بعد الجماع، ولا يشعر بحملها، فليس ما مُنِعَ منه نظير ما أُذِنَ فيه، لا شرعاً، ولا واقعاً، ولا اعتباراً، ولا سيما مَنْ علل المنع من الطلاق في الحيض بتطويل العِدة، فهذا لا أثر له في الحامل. قالوا: وأما قولُكم: إنه لو كان حيضاً، لانقضت به العِدة، فهذا لا يلزمُ، لأن اللَّهَ سبحانه جعل عِدة الحامل بوضع الحمل، وعدة الحائل بالأقراء، ولا يُمكن انقضاءُ عِدة الحامل بالأقراء لإفضاء ذلك إلى أن يملكها الثانى ويتزوجها وهى حامل من غيره، فيسقى مَاءَ زَرْعَ غيره. قالوا: وإذا كنتُم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل، وحملتُم على ذلك حديثَ عائشة رضى اللَّه عنها ولا يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به، فقد أعطيتُم أن الحيض والحبل يجتمعان، فبطل استدلالُكم من رأسه، لأن مداره على أن الحيض لا يُجامع الحبل. فإن قلتم: نحن إنما جوزنا ورودَ الحمل على الحيض، وكلامُنا في عكسه، وهو ورودُ الحيض على الحمل، وبينهما فرق. قيل: إذا كانا متنافيين لا يجتمعان، فأىُّ فرق بين ورودها هذا على هذا وعكسه؟ وأما قولكم: إن اللَّه سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دمِ الطمث لبناً يتغذَّى به الولد ولهذا لا تحيض المراضع. قلنا: وهذا من أكبر حجتنا عليكم، فإن هذا الإنقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم بعد الوضع، وهو زمن سلطان اللبن، وارتضاع المولود وقد أجرى اللَّه العادة بأن المرضع لا تحيض. ومع هذا، فلو رأت دماً في وقت عادتها، لحكم له بحكم الحيض بالإتفاق، فلأن يحكم له بحكم الحيض في الحال التي لم يستحكم فيها انقلابه، ولا تغذى الطفل به أولى وأحرى. قالوا: وهب أن هذا كما تقولون، فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن، وهذا بعدَ أن يُنفخ فيه الروح. فأما قبل ذلك، فإنه لا ينقلب لبناً لعدم حاجة الحمل إليه. وأيضاً، فإنه لا يستحيل كله لبناً، بل يستحيل بعضه، ويخرج الباقى، وهذا القول هو الراجح كما تراه نقلاً ودليلاً، واللَّه المستعان. فإن قيل: فهل تمنعون من الاستمتاع بالمُسْتَبرأة بغير الوطء في الموضع الذي يجب فيه الاستبراء؟ قيل: أما إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فهذه لا تحرم قبلتها ولا مباشرتها، وهذا منصوص أحمد في إحدى الروايتين عنه، اختارها أبو محمد المقدسى، وشيخنا وغيرُهما، فإنه قال: إن كانت صغيرة بأى شىء تستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال في رواية أخرى: تستبرأ بحيضة إن كانت تحيض، وإلا ثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل. قال أبو محمد: فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها، ولا تحرم مباشرتها، وهذا اختيار ابن أبى موسى، وقولُ مالك وهو الصحيح، لأن سبب الإباحة متحقق، وليس على تحريمها دليل، فإنه لا نص فيها ولا معنى نص، فإن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعياً إلى الوطء المحرم، أو خشية أن تكون أمَّ ولد لغيره، ولا يتوهم هذا في هذه، فوجب العمل بمقتضى الإباحة، انتهى كلامه. وإن كانت ممن يُوطأ مثلُها، فإن كانت بكراً، وقلنا: لا يجبُ استبراؤها، فظاهر، وإن قلنا: يجب استبراؤُها فقال أصحابنا: تحرم قبلُتها ومباشرتها، وعندى أنه لا يحرم، ولو قلنا بوجوب استبرائها، لأنه لا يلزم من تحريم الوطء تحريم دواعيه، كما في حق الصائم، لا سيما وهم إنما حرَّموا تحريم مباشرتها لأنها قد تكون حاملاً، فيكون مستمتعاً بأمة الغير، هكذا عللوا تحريم المباشرة، ثم قالوا: ولهذا لا يحرم الإستمتاع بالمسبية بغير الوطء قبل الاستبراء في إحدى الروايتين، لأنها لا يُتوهم فيها انفساخ الملك، لأنه قد استقرَّ بالسبى، فلم يبق لمنع الاستمتاع بالقبلة وغيرها مِن البِكر معنى. وإن كانت ثيباً، فقال أصحاب أحمد، والشافعى وغيرهم: يحرم الاستمتاعُ بها قبل الاستبراء، قالوا: لأنه استبراءٌ يحرم الوطء، فحرم الاستمتاع بها قبل الاستبراء كالعِدة، ولأنه لا يأمن كونها حاملاً، فتكون أم ولد، والبيع باطل، فيكون مستمتعاً بأمِّ ولد غيره. قالوا: ولهذا فارق وطء تحريم الحائض والصائم. وقال الحسن البصرى: لا يحرم من المستبرأة إلا فرجُها، وله أن يستمتِعَ منها بما شاء ما لم يطأ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما منع من الوطء قبل الاستبراء، ولم يمنع مما دونه ولا يلزمُ مِن تحريم الوطء تحريمُ ما دونه، كالحائض والصائمة وقد قيل: إن ابن عمر قبَّل جاريتَه من السبى حين وقعت في سهمه قبل استبرائها. ولمن نصر هذا القول أن يقولَ: الفرقُ بين المشتراة والمعتدة: أن المعتدة قد صارت أجنبية منه، فلاً يَحِلُّ وطؤها ولا دواعيه، بخلاف المملوكة، فإن وطأها إنما يحرم قبل الاستبراء خشيةَ اختلاط مائه بماء غيره، وهذا لا يُوجب تحريمَ الدواعى، فهى أشبهُ بالحائض والصائمة، ونظيرُ هذا أنه لو زنت امرأتُه أو جاريتُه، حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء، ولا يحرمُ دواعيه، وكذلك المسبية كما سيأتى. وأكثرُ ما يتوهم كونها حاملاً من سيدها، فينفسخ البيع، فهذا بناء على تحريم بيع أمهاتِ الأولاد على عِلاَّته، ولا يلزم القائل به، لأنه لما استمتع بها، كانت ملكه ظاهراً وذلك يكفى في جواز الاستمتاع، كما يخلو بها ويُحدِّثُها، وينظر منها ما لا يُباح من الأجنبية، وما كان جوابُكم عن هذه الأمور، فهو الجوابُ عن القُبلة والاستمتاع، ولا يُعلم في جواز هذا نزاع، فإن المشترىَ لا يُمنع مِن قبض أمته وحوزها إلى بيته وإن كان وحدَه قبلَ الاستبراء، ولا يجبُ عليها أن تستُرَ وجهها منه، ولا يحرم عليه النظرُ إليها والخلوةُ بها، والأكلُ معها، واستخدامها، والانتفاعُ بمنافعها، وإن لم يَجُزْ له ذلك في ملك الغير. وإن كانت مَسْبِيَّةً، ففى جواز الاستمتاع بغير الوطء قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد رحمه اللَّه. إحداهما: أنها كغير المسبية، فيحرم الاستمتاع منها بما دون الفَرْج، وهو ظاهر كلام الخِرَقى، لأنه قال: ومن مَلَك أمةً، لم يصبْها ولم يُقَبِّلْها حتى يستبرئهَا بعد تمام ملكه لها. والثانية: لا يحرم، وهو قول ابن عمر رضى اللَّه عنه. والفرق بينها وبين المملوكة بغير السبى، أن المسبيَّةَ لا يتوهم فيها كونها أُمَّ ولد، بل هي مملوكة له على كل حال، بخلاف غيرها كما تقدَّم واللَّه أعلم. فإن قيل: فهل يكونُ أولُ مدة الاستبراء من حين البيع، أو من حين القبض؟ قيل: فيه قولان، وهما وجهان في مذهب أحمد رحمه اللَّه. أحدهما: من حين البيع، لأن الملك ينتقل به. والثانى: من حين القبض لأن القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره، ولا يحصل ذلك مع كونها في يده، وهذا على أصل الشافعى وأحمد. أما على أصل مالك، فيكفى عنده الاستبراءُ قبل البيع في المواضع التي تقدَّمت. فإن قيل: فإن كان في البيع خيار، فمتى يكون ابتداء مدة الاستبراء؟ قيل: هذا ينبنى على الخلاف في انتقال الملك في مدة الخيار، فمن قال: ينتقل فابتداء المدة عنده من حين البيع، ومن قال: لا ينتقل، فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار. فإن قيل: فما تقولون لو كان الخيارُ خيارَ عَيْبٍ؟ قيل: ابتداء المدة من حين البيع قولاً واحداً، لأن خِيَارَ العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلاف، واللَّه أعلم. فإن قيل: قد دلت السُّنَّةُ على استبراء الحامل بوضع الحمل، وعلى استبراء الحائل بحيضةٍ فكيف سكتت عن استبراء الآيسةِ والتي لم تحض ولم تسكت عنهما في العدة؟ قيل: لم تسكت عنهما بحمد اللَّه، بل بينتْهما بطريق الإيماء والتنبيه، فإن اللَّه سبحانه جعل عِدَّةَ الحرة ثلاثةَ قُروء، ثم جعل عِدَّة الآيسة والتي لم تحض ثلاثة أشهر، فعلم أنه سبحانه جعل في مقابلة كل قرْء شهراً. ولهذا أجرى سبحانه عادته الغالبةَ في إمائه، أن المرأة تحيض في كل شهر حيضة، وبينت السُّنَّةُ أن الأمة الحائض بحيضة، فيكون الشهر قائماً مقام الحيضة، وهذا إحدى الروايات عن أحمد، وأحد قولى الشافعى. وعن أحمد رواية ثانية: أنها تُسْتَبَرأُ بثلاثة أشهر، وهى المشهورة عنه، وهو أحد قولى الشافعى. ووجه هذا القول، ما احتج به أحمد في رواية أحمد بن القاسم، فإنه قال: قلت لأبى عبد اللَّه: كيف جعلتَ ثلاثةَ أشهر مكان حيضةٍ، وإنما جعل اللَّه سبحانه في القرآن مكان كُلِّ حيضةٍ شهراً؟. فقال أحمد: إنما قلنا: ثلاثة أشهر من أجل الحمل، فإنه لا يتبين في أقلَّ من ذلك، فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك، وجمع أهلَ العلم والقوابلَ، فأخبروا أن الحملَ لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، فأعجبه ذلك، ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود: إن النطفة تكون أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة بعد ذلك، فإذا خرجت الثمانون، صارت بعدها مضغةً، وهى لحم، فيتبين حينئذ. قال ابن القاسم: قال لى: هذا معروف عند النساء. فأما شهر، فلا معنى فيه انتهى كلامه. وعنه رواية ثالثة: أنها تُسْتَبْرَأُ بشهر ونصف، فإنه قال في رواية حَنْبَل: قال عطاء: إن كانت لا تحيض، فخمسة وأربعون ليلة. قال حنبل: قال عمى: لذلك أذهب، لأن عدة المطلقة الآيسة كذلك، انتهى كلامه. ووجه هذا القول: أنها لو طلقت وهى آيسة، اعتدت بشهر ونصفٍ في رواية، فَلأَنْ تُسْتَبْرَأَ الأمةُ بهذا القدر أولى. وعن أحمد رواية رابعة: أنها تُستبرَأُ بشهرين، حكاها القاضى عنه، واستشكلها كثير من أصحابه، حتى قال صاحب (المغنى): ولم أر لذلك وجهاً. قال: ولو كان استبراؤُها بشهرين، لكان استبراءُ ذاتِ القُروء بقَرْءيْن، ولم نعلم به قائلاً. ووجه هذه الرواية، أنها اعتبرت بالمطلَّقة، ولو طُلِّقتْ وهى أمة لكانت عدتُها شهرين، هذا هو المشهور عن أحمد رحمه اللَّه، واحتج فيه بقول عمر رضى اللَّه عنه، وهو الصواب، لأن الأشهُرَ قائمةٌ مقام القُروء، وعِدَّتة ذاتِ القُروء قَرءان، فبدلهما شهران، وإنما صرنا إلى استبراءِ ذاتِ القَرء بحيضة، لأنها عَلَم ظاهر على براءتها من الحمل، ولا يَحْصُلُ ذلك بشهر واحد، فلا بدَّ من مدة تظهر فيها براءتها، وهى إما شهران أو ثلاثة، فكانت الشهران أولى، لأنها جُعِلَتْ عَلماً على البراءة في حق المطلَّقة، ففى حق المُسْتَبْرأَةِ أولى، فهذا وجه هذه الرواية. وبعدُ، فالراجح من الدليل: الاكتفاء بشهر واحد، وهو الذي دل عليه إيماء النص وتنبيهه، وفى جعل مدة استبرائها ثلاثة أشهر تسويةٌ بينها وبين الحرة، وجعلها بشهرين تسويةٌ بينها وبين المطلَّقة، فكان أولى المُدد بها شهراً، فإنه البدل التامُّ، والشارع قد اعتبر نظيرَ هذا البدل في نظيرِ الأمة، وهى الحرة، واعتبره الصحابة في الأمة المطلَّقة، فصح عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه أنه قال: عِدَّتُها حيضتان، فإن لم تكن تحيض، فشهران، احتج به أحمد رحمه اللَّه. وقد نص أحمد رحمه اللَّه في أشهر الروايات عنه على أنها إذا ارتفع حيضُها لا تدرى ما رَفَعَهُ، اعتدت بعشرة أشهر، تسعةٍ للحمل، وشهرٍ مكان الحيضة. وعنه رواية ثانية: تعتدُّ بِسَنَةٍ، هذه طريقة الشيخ أبى محمد، قال: وأحمد ههنا جعل مكان الحيضة شهراً، لأن اعتبارَ تكرارِها في الآيسةِ لِتُعْلَم براءتُها من الحمل، وقد علم براءتها منه ههنا بمضى غالب مُدَّته، فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس، وهذا هو الذي ذكره الخِرَقىُّ مفرِّقاً بين الآيسة، وبين من ارتفع حيضُها، فقال: فإن كانت آيسةً، فبثلاثة أشهر، وإن ارتفعَ حيضُها لا تدرى ما رَفَعَهُ، اعتدت بتسعة أشهر للحمل، وشهر مكان الحيضة. وأما الشيخُ أبو البركات، فجعل الخلاف في الذي ارتفع حيضُها، كالخلافِ في الآيسةِ، وجعل فيها الروايات الأربع بعد غالب مدةِ الحملِ تسويةً بينها وبين الآيسة فقال في (محرره): والآيسة، والصغيرة بمضى شهر. وعنه: بمضى ثلاثة أشهر وعنه: شهرين، وعنه: شهر ونصف. وإن ارتفع حيضها لا تدرى ما رَفَعَهُ، فبذلك بعد تسعة أشهر. وطريقة الخِرَقى، والشيخ أبى محمد أصح، وهذا الذي اخترناه من الاكتفاء بشهر، هو الذي مال إليه الشيخ في (المغنى) فإنه قال: ووجه استبرائها بشهرٍ، أن اللَّه جعل الشهرَ مكان الحَيْضَةِ، ولذلك اختلفت الشهورُ باختلاف الحيضات، فكانت عِدة الحُرة الآيسةِ ثلاثَة أشهر مكانَ الثلاثة قُروء، وعِدَّة الأمة شهرين، مكان القَرْءيْن، وللأَمةِ المستبرأةِ التي ارتفع حيضها عشرة أشهر، تِسعةٌ للحمل، وشهر مكان الحيضة، فيجب أن يكون مكانَ الحيضة هنا شهرٌ، كما في حق من ارتفع حيضها. قال: فإن قيل: فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر. قلنا: وههنا ما يدل على البراءة وهو الإياس، فاستويا. نهاية الجزء الخامس
380
|